نثر

 

كائنات أولية

أسير فى الشوارع، أستوقف كل عابرٍ لأحدّثه. أداعب الأطفال فيضحكون، و يركضون منّى. ينفر الرجال و يلقونى بسباب، و هم غاضبون، بلا سبب. أقترب من نساء لا تُرى وجوههن، يمشين فى الظل و يهربن من النور؛ يبصرننى قادماً فيسرعن خائفات فى طريقهن. يمضى الجميع كخيال، مثلما جاء ... إلى عدم.

أكمل السير وحدى و لا أكترث، بضحكٍ أو سباب. أتابع السير فى طرقات لا ترى، كما أتابع الكتابة على صفحات خاوية. لا أجد كلماتٍ تُكتب أو أناساً تدرِك، فألهو عابثاً متربصاً. أقذف طعمى لكل غافلٍ لا يَرى أنى هنا، مستتر. يملؤنى ملل فأهمُّ واقفاً، أمضى لأبحث عن فريستى، بلا كلل. فإن هى أتت، أردتها ممتلئة، بإثارة دائمة و كاملة، لمعرفتى أننى ... تصعب إثارتى.

أترك القلم و الورق، أنهض، و أغادر الصور. أنزل بين البشر، و أنظر للنور متسائلاً: كيف سأمضّى اليوم، و العمر؟ الشوارع المضيئة تعج بأناس، ألوان و أجناس، كأنهم طيور مسافرة، و حائرة. هى مثلى مجهدة، و تائهة. آه ... تعبت أرجلى، و عيناى ... لم تعد ترى.

البيوت نائمة! و الشوارع الساهرة، بمصابيحها الخافتة تتوالى مسرعة: تنظر نحوى مشفقة، إذ تعرف أنى شريد، فتعزينى وقت الألم. تمتد بلا نهاية، و يسافر معها عقلى، ليحلق فى خيال. ليس عندى أجنحة، بل أذهب بقدمىّ، إلى الضيق منها، لأزقة و حارات، متاجر أصحابها نائمون، على فراش وثير مع من يحبون، يستدفئون. بينما أنا هنا وحدى هائما، بلا بيت أو سرير، أعيش فى العراء.

جاء النهار ... و الصخب. مرت ساعات، و الشمس معى تسير، فى طرقات ضيقة. تركنا المدن و الميادين الخانقة، و أتيت هنا بين إخوتى الفقراء. أتجسس على نوافذ مفتوحة، أعيش بين أصحابها: أشم رائحة طعام، أسمع أحاديث، ضحكات و مغازلات، نداءات صغار لكبار ... متع البسطاء. أحب هؤلاء الناس، لأنهم مبتكرون، بقليل يصنعون المسرات. أما الأغنياء، الكل يعرف ما يحبون.

هنا أجد إثارتى و سعادتى، لا وقت عندى للملل، أستدفئ بين البيوت و الأسَر. لم أحب الفقر يوماً؛ بل أريد المال، ككل البشر! لكننى جئت اليوم، لأشاهد ... أتعلم و أبصر، كى أقضى حياتى شاكرا: أريد سلاماً و سعادة - إذ لما خلقنا و ذقنا الوجود؟ فى الحياة عرفت، أن الطفولة دائماً تبقى فى قلوبنا، و إن طال العمر بنا. رأيت رجالاً و نساءً يلعبون و يضحكون، لا يبالون بالفضيلة، فالكثير منها يملكون. إن سقط أحدهم أقامه آخرون، ليكمل معهم السير و اللعب و الضحك. يمشون عراة غير عابئين ... كآدم و حواء، كالبشر الأولين. لو ما سقط آدم لكان كل بنيه سعداء!

مراسلكم فى بلدة الكادحين يكتب لكم هنا، يصور كيف يعيش هؤلاء و يسجل ما يرى، أعزائى الأثرياء. هم أنماط لكائنات، لكم منها أن تأخذون ما ترون يصلح لسادتى، و أولياء نعمتى. هنا قلب المجتمع ... يصارع ليبقى نابضا.

 

آثمون

شريد فى الشوارع بغير مأوى، كالهوام يعيش، على الطرقات ينام. أمسكوه، و إلى العدالة سلموه، كى يصفو المجتمع و يتطهر، من وباءٍ كان أصابه، ظنوه هو. ظلوا يماطلون حتى أودعوه، فى مصحة غير العقلاء، هناك يعالجون و يهلكون ... صرختُ و ما من أحد استمع.

أب سرق خبزاً لأطفاله، ضربوه و عذبوه، تاركين طغاةً و وحوش، كبار لصوص، طاعوناً يسرى فى المجتمع. حاكموه، و اُعتبر ما فعل خطيئة، لا تغتفر ... فى السجن أودعوه—حتى مات مع يأسه. العدل انتصر، يحيا قادة البشر! ذهب الفقراء و الضعفاء، و عاش من قتل. انشغل العقلاء بالجدل، فضاع البسطاء، غاب البصر. فى معارك القيم المجردة نسِى الفهماء وهْن الرجل، لم يروا دموع زوجته و أولادها، حين مات—ذهب و ما رجع، لفظَه المجتمع.

شاب يحب فتاة، يكتب الشعر و يغنى، يعيش العمر قبلما يمضى. ما تركوه يحب أو يجد سعادته، بل أغرقوه فى تهديدات، تحذيرات و محاضرات، عن الطهر، و اللعنات لمن لم يطِع، و ينسَ متع الحياة الزائلة؛ هم يظنون أنها شرور و جرائم يجب أن تزول، أو سيقال قد فشلوا فى الإصلاح! ِلما أو كيف يحبون، و هم الفاشلون فى الحب، الخاسرون الأفراح! أعلنت الأخبار: سيُصلب الصغير البائس! ذاك الذى ذكّرهم بوجعٍ و عجزٍ و كِبر. صدر قرار، الكل عليه اجتمع.

كاتب يتألم، يسكب دموعه فى قلم، و يموت من الألم؛ يحزن لحزن الآخرين، و يفرح مع الفرحين. طفل يبكى والدين، أهداهما القدر إليه؛ صار أبكم لا يتكلم، و تعلّم—أن يصمت للأبد. مريض يشفق عليه آخرون، بكلماتٍ خاوية، و قلوبهم عنه تائهة؛ يشكو المسكين وحدته، لاعناً عجزه و عاهته، فتزداد كآبته. إنسان، طير، أو حيوان ... قد صلبهم البشر، كما صلبوا يسوع.

فكيف أُحب إذاً أناساً غابت عقولهم: تقدس الموت و على مذبحه يقتلون—الحياة و من يريدها لهم! و كيف لا أحب، و الحب فى قلبى، أعيش به وسطهم! بيدى سأقتل حبى، و بدلاً منه سأزرع—كرهاً لا يقتلع.

 

على فراش الموت

فى ذات يوم رأيت—أمواتاً أعرفهم، و ملائكة السماء يصحبهم قديسون الأرض، باتوا يتسابقون فى الهبوط إلى مدينتى الصغيرة القريبة من البحر. كان يسبقهم أجواق و جنود كثيرة، جيوش بلا حدود. سار الجميع نحوى، و أبدوا بشاشة و حب، بادلتهما بمثلهما. استقبلتهم و سرنا معاً كيفما نريد. رنمنا و أنشدنا حتى غروب الشمس، و فى المساء تسامرنا، و تبارينا فى إظهار الود بعضنا إلى بعض. حتى أن أتينا إلى شاطئ كنت أعرفه اسمه شاطئ الموت، هناك دعيتهم للنزول ... إلى بحر النسيان (فقد كانوا لا يعلمون للآن أنى من حلفاء الشيطان).

و فى لحظة واحدة، بكل ما عندى من قوى الشر الخارقة، دفعت بقسوة عنى كل من وصفت. لقى الجميع حتفهم و لم يبق أحد: مضوا بلا عودة و مات من خدعت، و تُركت لأمضّى اليوم وحدى.

حين عدت، و بينما كنت أسير، أتأمل وحدتى فى الأرض، ملأنى ندم عما فعلت. شعرت بضعف و هزال، و زالت عنى قوتى، و عدت كما كنت: إنسان. لكن ما أن وصلت البيت، إذ بألم يعتصرنى لم أعرف مثله قط، طرحنى و ... رأيتنى أموت. قد حانت ساعتى – انتهى تحالفى، أنا و ذاك الذى حالفت.

ها أنا الآن أحتضر، أنتظر نهايتى! ذهب أناسى الطيبون و غابت معهم براءتى، مذ عرفت و ذقت—ما كان لى أن أذوق، و عرفت من أكون. سقط الجميع بالأمس، فى بحر شرورى—بيدى كانوا يموتون. قتلتهم و أنا أعرف، أن من قتل يُقتل مهما طال الوقت.

الآن ... أريد و بسرعة، الكشف عن نفسى، بأى وسيلة أو حيلة، لأعرف سبيل الخلاص! ما عاد هناك أمل، ما عاد هناك وقت. ها هو قادم نحوى، يقترب ... يرفع منجله، يبتسم.

 

أشباح

فى ظهيرة يوم حار من أيام شهر يوليو بقيظه و قساوته، كنت أسير فى شارع تمر به سيارات كثيرة وكانت أغلب المتاجر مفتوحة كعادتها رغم بطء حركة الشراء. الكل فى خمول و الكسل يجثم على الأجساد و العقول، توشك رؤوس أصحابها أن تنصهر تحت قرص الشمس المتعامد عليها. مرت الدقائق الطويلة فى تهادى كذباب الصيف الذى لا يكف عن الطنين أو يود أن يفارقك. تباطأت خطواتى و شعرت بجفاف فى حلقى ... و تمنيت أن أصل بيتى بأسرع وقت.

لم يعد سوى دقائق قليلة باقية و أكون بالبيت، حين مررت بالميدان الرئيسى لأصل إلى الشارع الذى أسكن فيه. نظرت إلى الجانب الآخر قرب النافورة القائمة فى وسطه، فوجدت رجلين فى ثياب غريبة متسخة و متهرئة يجلسان على العشب و يتحادثان. كانا يتهامسان بطريقة أثارت فضولى؛ كان أحدهما يتكلم بينما الآخر يتلفت يميناً و يساراً كمن يتأكد أن أحداً لا يسمعهما. الأول منهما بدا فى منتصف عمره، و الآخر، الذى كان يتحدث معظم الوقت، يصغره ببضع سنوات. كلاهما بدت عليهما سمات القوة و لم يوح وجهاهما بأى ضعف أو كبر.

من آن لآخر كانا ينظران إلى المارة و قائدى السيارت و نظراتهما ثابتة و حادة تكاد ألا تتحرك، كأنهما صقران اتخذا جسم بشر. فجأة مرت أمامهما سيارة فاخرة يستقلها بعض شباب فى مقتبل العمر بسرعة شديدة، فى نفس اللحظة التى أطلق فيها شرطى المرور صافرته لوقف الطريق. شرعتُ فى عبور الشارع بحذر و أنا أستمع إلى الموسيقى الصاخبة القادمة من تلك السيارة التى توقفت بطريقة مفاجئة كما فى عرض أو سباق. فجأة أطل برأسه من السيارة أحد هؤلاء الشباب ناظراً نحو الرجلين الجالسين على العشب ... و صار يصرخ: "الشيطان! الشيطان!" ففزع الرجلان و فرا هاربين كمن اُكتشف أمرهما. صار الشاب يصف لرفاقه منفعلاً ما رأى: "عيناهما تلتمعان و لا توجد بهما حدقة، لعاب يسيل من جانبى فمهما ... و نابان كبيران يطلان منهما. أرأيتم ذلك الرسم الأسود على صدريهما؟ ألا تصدقونى: إنهما من الشيطان. ألم تروا كيف اختفيا فجأة و لم يعد لهما أثر؟"

ارتبكت و كادت قدماى أن تتشابكا فأقع حين سمعت و رأيت كل ما حدث. لكننى تماسكت حتى عبرت إلى الجانب الآخر فى سلام. و نظرت إلى السيارات بعد أن عاد المرور إلى الحركة و سار كل فى طريقه، كأن شيئاً لم يكن.

سرت و أنا أتساءل: أيكون كلام هذا الشاب صحيحا؟ كيف اختفا الرجلان فجأةً؟ هل كان ذلك كله خيال ارتسمه عقل ذلك الفتى؟ الصغار دائماً ما يحبون الخيال و الإسراف فيه، كما أن كثيراً من النشء فى هذه السن المضطربة تتملكهم أفكار عابثة كرغبة فى التمرد أو لقلق دائم عندهم ... لا، لم أعرف الإجابة. لم أقو على التفكير فقد كنت مجهداً و أشعر بالعطش، فمددت الخطا أكثر لأقترب من البيت.

عندما شرعت الدخول إلى بيتى كدت أصطدم بشخصين واقفين هناك ... نظرت فوجدتهما نفس الرجلين و وصف الفتى ينطبق تماما عليهما. لم يكن يكذب كما ظننت! تيبس جسدى و لم أدر هل أصرخ أم أهرب ... صرخت، لكننى لم أعرف ما حدث بعد ذلك.

أفقت فى فراشى و أختى و زوجها بجانبى. أخبرانى كيف هرع إلىّ أحد الجيران بعد أن سمع صرختى فوجدنى ملقى على الأرض بلا حراك أمام باب شقتى. فأخرج المفتاح من جيبى و حملنى حتى هنا ... ثم اتصل بهما. صارا يسألانى عما حدث - و أنا لا أعلم ماذا أقول لهما.

مرت عدة أيام و بينما كنت عائدا من زيارة أختى، ماراً بالميدان المؤدى إلى بيتى، نظرت إلى البقعة التى كان يجلس فيها هذان المخلوقان—اللذان لم تفارقنى صورتهما قط—و سرت إليها يساورنى بعض الخوف. لكن سرعان ما زال خوفى حين وجدت المارة و السيارات و المتاجر كما كانت على حالها حين تركتها، فقررت أن أذهب لذلك الجزء من الميدان الذى كان يجلس فيه الرجلان، حتى أننى تجاسرت و جلست على نفس العشب الذى جلسا عليه ... نظرت مدققا حولى، لعلى أجد شيئاً غير عادى - فلم تر عينى شيئاً.

لكن ... كانت هناك رائحة غريبة تملأ أنفى، ظننتها قادمة من أحد المطاعم القريبة، كرائحة لحم فاسد أو جسد لكائن ميت يتحلل. نظرت فلم أر أثراً لأى من تلك الحيوانات الضالة التى تموت على الطرقات و تترك لتتعفن، ما لم يحملها عاملو النظافة بعيداً. تزايدت الرائحة و معها تزايدت حيرتى ... حتى كدت أشعر بالإغماء.

أحسست بقوة تشدنى إلى الأرض و تسيطر على أطرافى فبات كل جسدى يابساً. نظرت و إذا بنفس المخلوقين أمامى ثانية، و لم أستطع أن أصرخ كما فعلت من قبل، فثمة طاقة غامضة منعت لسانى من الحركة. لم تخيفنى نظرتهما كما ظننت، بل وجدت وجهيهما مختلفين عما كانا من قبل. صارا أقرب لشيخين من النساك، بدلاً من ذلك الوصف الشيطانى الذى حملته كلمات الشاب فى السيارة. أخذا ينظران إلىّ بأعينهما المتسعة، ثم ... اقتربا.

أفقت لأجدنى فى غرفتى أنظر لصورة جدى و جدتى المعلقة على الحائط. كانا يرتديان ثيابا ً أسود و يغطيان رأسيهما حينما كانا فى زيارة أحد الأماكن المقدسة.

 

ساكن الصحراء

فى أرض هادئة بعيدة، يحيطها نخل و جبال، فى أحد الأودية الصامتة، كانت تقبع فى حضن الصحراء بقعة يأتيها المتعبدون، تغرق فى ليل من سكون و ورع، تُسمع فيه أنات طيور نائمة و أنفاس لأجساد سافر أصحابها إلى الحلم. جلس فى أحد الأركان، ينظر إلى قنديل تركه ساكنو المكان، ليؤنس الليل و الساهرين، يتأمل صور أناس ماتوا منذ قرون. رائحة بخور و طيب تنفذ لرأسه، فتثير شجناً و فرح، و صدى تراتيل النهار ما زال فى أذنيه، يملأ صمت الصحراء.

عند الباب أنصت لصوت الريح الهائمة، تحرك الستائر المسدلة و تداعب لهب القنديل، تحمل معها رائحة أشجار و زهور، تأتيه من الخارج. سرت فى جسده برودة، فضم ذراعيه إلى صدره، و انكمش يلتمس الدفء. امتزجت حوله أصوات الطبيعة بأيقونات الجدار، فبدا و كأن أصحابها يتحدثون، بحديث غير مفهوم.

رفع عينيه إلى كوة صغيرة، كائنة بالسقف العتيق، فرأي السماء و قد تشابكت نجومها فى عناق سرمدىّ. كم من نجم كان هنا رآه آخرون مثله، هم ذهبوا و ظل النجم، حليف السماء و الليل، يشاهد الأحياء يأتون و يموتون ...

شعر باقتراب خطوات، و أشخاصٍ يتحدثون ... ثم تلا ذلك صمت طويل. لعل ما سمع خيال، اختلط بواقعه دون أن يدرى! عادت الهمهمات، لكنها كانت واضحة تلك المرة: صوت نشيج و بكاء، قريب من رفات أحد الأجساد، كائن فى مقصورة زجاجية يتبرّك منها الزائرون. شعر بخوف و همّ واقفا، يلتمس طريقه إلى الباب. هناك اعترضه شبح، فكاد أن يسقط من الارتطام. امتدت له يداً تساعده على القيام، و إذا بإنسان أشبه بتمثال: له وجه كهؤلاء الذين بالأيقونات. كانت ثيابه السوداء تغطى كل جسده و تفوح برائحة غامضة، شعر بها حين اقترب ذلك الآخر ليسانده.

تعجب من قوة بنييته رغم انحناء ظهره و ذقنه البيضاء. زادت حيرته حين رأى دموعاً بعينيه الغائرتين، و حزناً زادهما وقارا بلا ضعف. سأله مع من كان يتحدث، و لما كان يبكى! نظر الشيخ إلى الأرض كمن يبحث بها عن الكلمات، ثم نظر إلى الأمام مثبتاً نظرته نحو لا شىء، أو شىء يراه هو. بدأ يتكلم و كأن صوته يخرج من رأسه: لم تُر شفتاه، بل شاربه الكث الأبيض يرتفع و يهبط.

كان قد اعتزل الحياة و العالم منذ زمن بعيد، تاركا كل ما أحب و امتلك، و أتى هنا. لم يبكِ من ألم أو حزن على شىء فات، بل كثيراً ما تجيش مشاعره بحب، لا يبحث عن سبب، للحياة و الطبيعة و الناس—فيبكى. لم يسعَ ليعلن حبه، فلا جدوى من الكلمات. كثيراً ما يساء فهم الأشياء، حين تُسجن المعانى فى أسماء و جمل يائسة. فى صمته عرف أسرار الحياة، و لم يسع ليشاركها مع أحد، فكلٌ يجب أن يعرف الحقيقة وحده: المعرفة تُحب، و لا يكره عليها أحد.

أطل الفجر و الشيخ بعد يتحدث، و هو يستمع إليه. أشرقت الشمس و ملأت أشعتها المكان، فشعر بنورها ينفذ داخله ... نور جديد أضاء عقله.

* * *

ذهب إليه، منتظراً منه كلمة كل مرة: إنها القوت الذى يقتات به. قرع الباب ثم دخل، ليجد نفس الجسد و صاحبه بهيئته الرثة كعادته منزوياً فى أحد الأركان، ساكناً لا يتكلم. فقط كان يشع من عينيه بعض الحياة و دفءٌ جعله يشعر بالارتياح، فبدأ يتشجع بالحديث و إخراج ما لديه من عبءٍ و أسرار ما كان ليشاركها مع أحد سواه.

مضت ساعة تقريباً لم يشعر فيها أى منهما بالوقت. عندما انتهى، نظر إليه الشيخ بعينيه الثاقبتين و جسده مازال بعد ساكناً، و قال فى هدوء: "لا تخف يا بنىّ! ستهزم كل أعدائك و تجنى ثمرة ما عانيت." مرّت الكلمات على قلب الفتى لتسكّن ما به من ألم، كنسمة باردة تحييه من جديد، و تعيد شيئاً من الأمل.

لكنه بعد أن سرد كل ما صار له من أحواله مع الناس و نفسه و الله، توقف فجأة عاجزاً عن إيجاد الكلمات، فقد جاشت مشاعره و شعر بضيق فى صدره و هم أن يغادر المكان. لكن الشيخ طلب منه أن يظل. فأطاع فى يأس، و احترام لمعلمه.

* * *

بعد عدة أسابيع.

تابع الشيخ، بنبرة هادئة و حاسمة معاً:

اليوم هو الأخير لنا هنا! انظر لوجهى جيداً و تذكر ما قلته لك. امض بسرعة و لا تنظر للوراء، و لا تحاول البكاء. و اعلم أننى لم أكن أبداً مثلك، فلا أنت مرآة نفسى أو صورة روحى كما كنت تردد. كان سيأتى اليوم الذى فيه ستتمنى أن أتركك، و تكرهنى و أكرهك، لنعانى وطأة رباط، جمعنا فى لحظة غاب فيها عقلنا.

صدقنى! لم أُرِد شقاءك أو تعاستى، بل بهجة لقلبنا و نور عقلنا. ما لنا نفكر فى اجترار لحظة مضت فنقف أمامها عاجزين بلا حراك، لتحركنا و تقود حياتنا. لنمزق رباطنا الآن، و نقتل تلك الرابطة، قبل أن تقتلنا هى. عشت سنيناً كثيرة فلم أجد معنىً لحلم يسرق الحياة منى، أو فكر يأخذ من عقلى صوابه. فلنغنِ لحرية ما زالت فى أيدينا – دون أن تتشابك أيدينا، فتسقط حريتنا إلى الأبد.

لن أقف فى الطريق الذى اخترتُه، بل سأتابع السير أينما أخذنى، طريق بدأته منذ الصغر. فلا تحزن إن رأيتنى أذهب، فما قابلتنى إلا لتعرف صورةً وصوتاً و أفكاراً جديدة أحملها فى جسد، ستتركها لتشاهد بقية الصور، و ترى كم هى الحياة جميلة و كبيرة، كلوحة يشترك في رسمها كل أحد.

دعنى الآن! فلن نجنى سوى ملل و نحيا فى خواء. و لن أحتمل آنذاك قرارات ماض قد قتل مستقبلى قبل أن أراه.

فى غربتنا ههنا، لكل منا وطن يحيا بداخله، عليه أن يغمض العين ليراه. ففى خلوتنا يضىء النور عقلنا ونبصر ذاتنا عارية، نسمع صوتها الواهن يهمس، فنعرف ما بها: ألمها و فرحها.

كلنا نجرى فى الأرض لننهل من المتع، و إن كنا غرباء. كلٌ يعيش خلوته، فى حركة أو فى سكون – فلِما يأتى آخرون و يفسدون وحدته! لما نمجد الغربة بلقائنا، فيغيب وطننا و ننسى أن سعادتنا هنا بيننا، فى داخلى و داخلك. الجمال هو ليس ما ترى؛ بل ما ترى العين و يأتى العقل ليدركه. سنبحث دائماً عنه و لن يضنينا البحث، لئلا يتسلل القبح إلينا و تبتلعنا كآبته، فنصير غرباء عن هذه الحياة و لا نعلم لما نحن هنا.

عد يا صغيرى لوطنك: قلبك الذى منه تهت و أردت أن تسكن قلوب آخرين. هو مرشدك، لا تنصت لسواه أو تعطه لغيرك. ليكن هو رفيقك، و أنت تتحرك؛ و إن صرت تتحرق بظمأ و شوق لآخرين: أحب، و لا تشرب من كأس واحدة، مرتين. اخرج الآن و دعنى فى خلوتى! أعطيتك ما أملك و ليس عندى جديد. أكمل الطريق وحدك، سر مثلى وحيد، و ستعرف الطريق.

 

مع البحر

كانت الأمواج تهدر بلا توقف، و الليل صامت يشاهدها من أعلى و قد تراصت فيه النجوم: صار يجثم على الكون، كتاجر يعرض بضاعته و لا يشترى منه أحد. لم يكن على الشاطئ سواى؛ فقط كان صوت الموج رتيباً متعاقباً كصوت أنفاس آلهة البحر النائمة، أو دقات ساعة الزمن تدق منذ الأزل. أحاط بالوجود سكون فما بقى سوى قليل به يذكّره بالحياة: طائر ليل عابر، ريح تداعب غصن، نائم يتقلب فى فراش ...

فى الليل يعترينى خوف كلما نظرت للبحر! ذاك الذى يبهجنى صفاؤه بالنهار، فيسافر عقلى معه ملقياً بأحزانى فيه، ليحملها بعيداً بلا كلل، إلى لانهاية أو شاطئ آخر لا تراه عينى. أشتاق للمطلق به، و لكنى أخافه حين لا أدركه؛ شوق تحركه بى أشياء أخرى كثيرة كالسماء و النور و السكون: معهم تخرج نفسى السجينة فى جسدى، تنطلق سعيدة حين ترى الكون بلا قيود، كما هو؛ أو لا تراه فترهب منه و تعود ... تنكمش خائفة.

كان صوت الموج كئيباً و كان فى نفسى حزن، فأتى البحر و أزاد من حدته: بتنا فى سباق يائس، عمن يفوق الآخر يأساً. (لا أدرى لما يحزن البحر و هو الملىء بالحياة و الأحياء، يهب من عنده الخير لمن فيه و من هم على اليابسة!) أخرجت أحزانى أمامى لأراها، ثم دفعتها بعيداً إلى داخله، و انتظرت منه دوره فى الخلاص منها ... فإذ به يعيدها إلىّ ثانيةً. فشعرت بيأس و قنوط، و اختفت الأشياء كلها حولى فى سحابة دموع فصرت لا أراها: البحر و الليل و النور، اتحدت معاً و امتزجت ألوانها حتى صارت بلا لون، لتبقى فقط نفسى...بحزنها. صرت أسبح فى بحر لا أرى فيه الاتجاهات فأكاد أسقط غارقاً، أحاول البقاء حياً قبلما تخور قواى و أهبط إلى عدم. صارت أفكارى تصارع من أجل البقاء، تبحث عن قشة أو فكرة أقوى منها لتمسك بها؛ لكن بات كل منها يشاهد الآخر يسقط، و ينتظر مثله نهايته ...

كنت أبحث محاولاً الكشف عن حقيقتى، قبل أن تبتلعنى الحياة فى بحرها الأكبر، فلا أعود أرى. لم أرد النوم أو العودة إلى صخب الحياة، الأعلى من البحر، و متاهاتها وسط آخرين: تائهين، يركضون و لا يدرون أنهم دُمى فى يد القدر، تستسلم بلا إرادة أو مقاومة. لم أرد أن أكون مثلهم تائها، بل جئت هنا أبحث عن ذاتى و أتحدى القدر.

خارت قوى عقلى و أتى النوم يحاول اختطافى إلى أرض الحلم و الخيال لأترك واقعى يائساً... شعرت بلذة كطفل بينما كان يحملنى، و الرذاذ البارد يصطدم بوجنتى و شعرى. رأيت البحر يضحك حين رآنى بين يدىّ النوم مستسلماً، كأنى عدت لطفولتى و تحملنى أمى. صار يتابعنا أنا و النوم، فبات صوته يأتينا خافتاً داخل الحلم كلحن هادئ ... أحببت البحر حين لم أقاومه؛ و صادقت الحياة حين طرحت ذاتى ورائى، و لم أنظر سوى أمامى.

جعلتنى ضحكات البحر أضحك: قد نجح الشقىّ فى إسعادى، و إن سخر بعد من سخافات يأسى؛ بات يدفعنى بأمواجه للعب و اللهو معهما ... فتعجبت من أمر ذاتى و كيف بقليل تنسى شقاءها و تفرح ثانيةً، بحلوى و متعٍ تأتيها الحياة بها.

قمت عائداً إلى بيتى. و فى الطريق صار صوت أمواجه يبتعد شيئاً فشيئاً كمن يودعنى... و أنا من بعيد أراه يبتسم—فأرد الابتسام.

تلاشى البحر كنقطة تقابلت مع نهايات الطرق التى كنت أسير فيها، اختفى عن الأعين حين بدأت حياة المدينة تأخذنى. تذكرت عملى و الآخرين و الوقت، و انتهت لحظات الحلم. جاء النهار متسللا و البيوت ما زالت نائمة. صعدت درجات السلم متمهلاً، و عندما جلست لأستريح مددت يدى لأفتح النافذة، لتظل تلك الصلة مع الطبيعة و البحر. وضعت رأسى على الفراش و نسمات الصباح تداعبنى. ملأنى شعور بالارتياح و حب لكل الخليقة و البشر. لم أعرف فى الحياة أجمل من رؤية يوم جديد يولد ...

 

فى القطار

كادت العربة أن تنفجر براكبيها من فرط الأجساد التى ملأتها، بينما كان هو عند المنتصف تقريباً يقف وسط هؤلاء الغرباء، و قد اختفت ملامحه بين عشرات من وجوه لأناس جمعهم القدر معه. التحم جسده بأجسادهم، فصار يرى حوله رؤوساً كثيرة بلا أصحاب، مئات من الأذرع و الأرجل تشابكت معاً فى لوحة داكنة اختفى بين ظلالها. صارت تتهاوى عليه كتل من لحم البشر، كما تهاوى هو بدوره عليها. بعد محاولات عدة لتخليص جسده و اختيار أقل الأوضاع إيلاماً له، استسلم كالآخرين لقدره و ارتضى بأمره...حتى نهاية الرحلة.

ساد صمت كئيب و قاتل، لم تُسمع فيه سوى صوت عجلات القطار الرتيب. كانت الجموع حوله لا تُحصى، لكن أى صوت يصدر منهم، مهما كانت درجته، بدا واضحاً، متجلياً وسط السكون، ذا صدى يثير انتباه كل من بالعربة، مهما حاول تجاهله. إن سعل أحدهم التفت الجميع لذاك الذى سعل؛ إن صرخ أحد الأطفال أنصت الكل إليه؛ و إن حدث شجار شارك الكل فى احتوائه، أو إشعاله. لم تكن لحرية الخيال أو العقل مجال هنا، من قوة الواقع و قسوته. قليل منهم تبلدت أجسادهم و عقولهم معاً: هؤلاء الذين تعودوا عناء السفر و مذلته، فكانوا يضحكون و يتبادلون الأحاديث بلا اكتراث، بينما أخلد آخرون بينهم للنوم وسط كل هذا العبث.

أما هو الذى لم يعتد أى من هذا، فقد تخدرت كل أجزاء جسمه و بات لا يشعر بألم من كثرة الألم. بل صارت لديه حساسية أخرى شديدة و مفرطة، لكل حركة تصدر من تلك الأجسام المشتبكة معه، فنشأ اتصال بدنى و آخر عقلى بينهما، بعد أن تفرقت جميع أعضائه لتلتحم بمثيلاتها من الآخرين. نظر إليهم – فقد كانت عيناه الجزء الوحيد الذى لم يفقد حريته – فوجد وجوههم الكاريكاتورية تثير السخرية و بدت أجسادهم المتحجرة كتماثيل غير متقنة. لكن أكثر ما شعر به هو الرثاء لهم و للفقر المدقع الذى لم يترك لديهم بديلاً آخر للسفر. عزم فى داخله ألا يكرر ثانية تلك التجربة، و تمنى ألا يكون أبداً مثلهم رغم تعاطفه و إشفاقه بهم.

صار يشرد بذهنه عابثاً، بين أفكار و صور يختزنها و يسترجعها بعقله كلما أحب، كى يقتل الوقت و الألم. نظر للغرباء حوله فبدوا كمحبين فى عناق جماعى حميم، و نظر ثانية فرآهم كالأعداء فى اشتباك، يتعاركون و لا يوقفهم أو يصلح بينهم أحد. اقترب كل واحد من أخيه لأقصر مسافة ممكنة بين اثنين من جنس البشر، و اجتمع أقصى عدد من الأجسام فى أقل مساحة—ففكر متأملاً: هل يمكن لعقولهم أن تتقارب بنفس الطريقة، أم أن عقل كل منهم فى عالم يعيش وحده؟ حاول أن يجد أرجله التى نسيها و مات إحساسه بها منذ دهر فوجدها تئن أسفل أحد الأحذية، ثم بحث عن أعضاء جسده الأخرى فرآها و قد تفرقت عضوا بعد الآخر بعيداً عنه، كل منها متخذاً طريقا يختلف عن سائر الأعضاء. (كما لاحظ بينها أعضاءً أخرى غريبة لم يعرفها أو يرها من قبل، لأناس دفعهم القدر و العربة عليه.)

استيقظت حواسه فجأة حين شعر بعطر أنثوى قوى ينبعث بالقرب منه. كان صعب عليه معرفة مصدره أو مدى قرب صاحبته إليه—لم يستطع الإجابة عن ذلك، بعد أن شلت حركته و ماتت حواسه. لم يبق لديه سوى أشلاء حاسة لمسه المقهورة تحتضر تحت وطأة المقهورين مثله. احتار كثيراً...فحاول التخمين بعقله، و بقليل من الحساب و قليل من خبرات سابقة، فأدرك أن ما كان يضغط على جسده طوال الدقائق الطويلة الماضية، ليس سوى نهدىّ صاحبة تلك العطر، تدق حلمتاهما بقوة على ظهره كمسمارين ينفذان لجلده.

لم يدر إن كان أول ما شعر هو إثارة أم خوف لاكتشافه أمرها، فآلامه الكثيرة كانت أقوى من أى إثارة. شعر بسخونة أنفاسها تلفح رقبته و تنفذ منها لرأسه و بقية جسده. كان شارداً طوال الوقت و لم ينتبه لتلك الضغوط سوى الآن—فلم يدر ماذا يفعل. لم يلتفت أو يحاول الحركة، فمن كان وراءه مسيطر أكثر منه، فارتضى بأمره. عادت الأنفاس تتلاحق بقوة، و جسد صاحبها يهتز بنفس القوة و السرعة...فشعر بخوف و حرج يتملكانه. لم يعرف ماذا يحدث!

لم تستطع عيناه على مدى رؤيتهما الضيق أن ترى سوى ذراع لامرأة، قد تغطى بقماش أسود أملس، و يداً يستقر حول أحد أصابعها خاتم ذهبى، تحاول التشبس بالكرسى أمامه. تبادلته أفكار، و دارت عشرات الاحتمالات برأسه. لكن أول ما طرأ على ذهنه أن يتأكد أولاً ألا يكون ذلك مجرد شخص يحاول سرقته. بحث عن النقود فى جيبه و حاول أن يتحسسها لكن يده المتيبسة خذلته، فقد كانت عاجزة عن الحركة تحت وطأة الزحام. حاول فك أصابعه شيئاً فشيئاً...حتى وصل بصعوبة لجيبه، فوجد النقود كما هى به.

خطر برأسه أن المرأة قد تكون تختنق أو فى حاجة لمساعدته، لكنه لم تكن لديه الوسيلة للتأكد من ذلك... فقرر أخيراً أن يفتح فمه – الذى جف من طول الطريق و شدة الحر – ليسأل مَن وراءه عما به و يطلب النجدة إن كان يحتاجها. لكنه فى نفس اللحظة وجد الأنفاس تعود كما كانت أول الأمر: هادئة، منتظمة، تنم عن ارتياح صاحبها. فاطمئن بدوره هو الآخر و تابع قطار أفكاره الذى عرقلته تلك العاصفة الساخنة، بعدما زالت حرارتها و صارت تبتعد عنه... تنفس الصعداء أخيراً، و عاد من جديد ليلهو مع خيالاته.

حاول أن يتسلى قليلاً. فتذكر نغمة لأغنية كان يسمعها كلما سافر مع والده و هو صغير لقريته. جرب أن يصنع إيقاعاً مكتوماً بفمه، لكنه شعر بحرج حين وجده واضحاً أشد الوضوح للآخرين، فتراجع و ظل صامتاً. أغمض عينيه ثم أخذ عدة أنفاس بانتظام كى يعود لهدوئه و أفكاره. وجد كل فكرة شرع فى استدعائها تهرب منه، تتلاشى كلما أمسك بها. فيأس، و أحس باختناق لإخفاقه، و تذكر قيوده و ألمه و ثقل نظرات الغرباء حوله تكاد تفترسه. شعر بأسى و شعور سحيق بالعدم، إذ لم تستطع أى من حواسه أن تنقذه و أى من أفكاره أن تخلصه. بات و كأن جبال كثيرة تجثم على صدره...و كاد أن يغشى عليه!

* * *

فتح عينيه فإذا بالقطار خالياً حوله...و أشجار النخيل تطل من الخارج تستقبله بأغصانها المتأرجحة. نظر من بعيد فقرأ لافتة عليها اسم قريته الحبيبة تقترب مرحبة بزوارها بكرمها المعهود. كانت الشمس تدنو من المغيب، و بعض من المزارعين يحث الخطى عائدين إلى منازلهم. أحيته نسمة المساء الباردة من جديد، و تذكر الجو الخانق و أنفاس المسافرين الذين غادر معظمهم الآن. نظر إلى السماء و قد اتسعت إلى لانهاية، فاتسع صدره و حبه للحياة. ردد صلاة شكرٍ فى داخله، و تمنى ألا يسافر ثانية—و أن يعيش هنا للأبد.

 

حادث

مهما قلت عما حدث، لن تصدقوه، أو تعقلوه. لقد رأيت بنفسى كل شىء، كنت أعيش وسطهم—و لكن، لا...هذا وهم، محال! أسمعكم تتهامسون. سأقول: اشتركت فى كل ما نفذوه—لكنكم تهزئون بى و لا تصدقوننى. أفهم أنى صغير—و لكن عندى من المعلومات الكثير، و أتنم تحتاجونه. الحلم لحظات عشتها و لن تتكرر. أحكى كل شىءٍ بعقلى، فلا تفهمون ما أحكى. سأستعير بعض الصور، و من بعض الحواس مساعدة...فلا تملون ما أحكى.

كنا نتماوج فى العاصفة، و الأصوات مرعبة و أنفاسنا متلاحقة، و نظراتنا لبعضنا: يستغيث كل منا بصاحبه. سالت دموعنا، فاختلطت بالرذاذ و العرق؛ و صراخنا لم نعد نسمعه، رغم ارتفاعه و مرارته. تقاربنا من بعضنا أكثر، نتقوى بوحدتنا؛ و تماسكت أيدينا تستدفئ أجسادنا بعضٌ ببعض. كنا أشباه عراة، حين هاجمنا الموت ...

اقتربت العاصفة، ولا من مخبأ لنا. فعدوت و عدا كل من معى، حتى سقطنا فى هوة، أشبه بخندق مهجور منذ سنوات. لكن حين نظرت بصعوبة حولى، اكتشفت أن كل من معى أشلاء.

* * *

ابتعد الأطفال عن جثة الرجل الملقاة فى الشارع، و جاء الأهالى يتشاورون كيف سيخفونها عن أعين الشرطة حتى لا يسائلهم عنها أحد. قال أبو الرجل: "دعونى أخفيه عندى فأنا أبوه و تهمنى جثة ابنى—كما أن زوجتى تود رؤيتها." رد الرجال: "أى مجنون هذا! ستأتى الشرطة بلا شك إلى بيتك و تقبض عليك لإحرازك جثة قتيل بلا سبب، دعك من أنهم لم يبدأوا فى تقطيعها بعد لمعرفة القاتل." بكى الرجل كالطفل، ثم انهال على جثة ولده يداعب وجهه و شفتيه كما كان يداعبه و هو رضيع. فتسربت دماء من فمه بدلاً من ابتسامته القديمة.

تألمت السيدات من أجله و فزع الأطفال و اشمئز الرجال—و إن كان بداخلهم رعدة جعلتهم يرتعشون خوفاً على رجولتهم كى لا يكونون مثله. نظرت امرأة من بين النساء بنظرة تحتوى الرجل كله فيها—فقد صار مِلكاً للجميع و لن يعيقها برفضه أو إرادته. و أحبت أن تعرض أخذ الجثة عندها بالبيت...لكنها خجلت من مطلبها و تراجعت عنه. كان طفلان وحشيان يلعبان أسفل سيقان الرجال و النساء و رأيا الجثة، فصارا يعبثان بملابس الرجل حتى كشفا عن كل أجزاء جسده، بينما النساء تنظر فى شغف...و الرجال لا يبالون—فالرجل صار لا يملك نفسه.

أتى الأب على ابنه يمرر أصابعه بشعر صدره و يمسح الدماء عنه. أخذ يقبل وجنتيه و شفتيه بشوق من كان غائباً و عاد، أو غاب و لن يعود. انطرح على الأرض و رقد بجوار جسد ابنه يمسك كتفيه محاولاً أن ينهضه، بينما الطفلان مازالا يتقافزان كشيطانين أمامه. فصرخ قائلاً: "رحمتك يا الله! أهكذا نفعل بموتانا...و كلنا يوماً سنموت و نكون كهذا الميت! إن هذا رجل غاب عن الحياة فبات كتلة من رجولة نائمة، كانت له أحلام مثلكم، كبرت و نمت فوصلت ذروتها...ثم مات."

كانت فتاة تتطلع فى براءة على ابنه فصفعها فى اهتياج على وجهها، ففرت المسكينة و هى تبكى. ثم التفت لباقى الرجال و هو ثائر مهتاج فأرسل لكمة لرجل أسفل بطنه فسقط على الأرض من الألم. ثم نظر إلى الآخرين و أخرج سكيناً و هو يلوح به فى وجههم و يهدر قائلاً: "ليقترب الرجل منكم هنا و سأقطع بقايا رجولته!" فوقف الرجل الذى كان قد ضربه و اقترب ببطء منه ثم طعن الأب الهائج طعنة أودت بحياته فسقط صريعا بجوار ابنه...

بعد قليل انصرف الجميع و تركت الجثتان حتى تعفنا. و مر يومان ثم أتت الشرطة و حملتهما فى سلام.

* * *

خلف أسوار الطبيعة!

دخل السجن أخيراً، حدث ما كان يخشاه سنين كثيرة. نهايته التى كان قد تخيلها، و لم يظن يوماً أن تصير واقعاً، قد أتت. ها هو اليوم تصدق هواجسه، فيرى نفسه وسط أناس قد سمع عنهم من آخرين، من قصص و كتب قرأها فى صباه. هؤلاء الأشقياء أتت بهم أفعالهم إلى هنا، مثلما زج به القدر هو أيضا بينهم: أولئك الذين صورتهم القصص، كوحوش بلا حارس تجول بين الناس، ترتكب الشرور و تفسد المجتمع، أتباع إبليس، قاع البشر.

رغم خوفه أول الأمر من رهبة المكان و النظرات حوله، داعب قلبه إحساس يائس بأن تكون تلك تجربة جديدة، أو مغامرة كتلك التى كان يقرأها. و ما أيد تفاؤله العابث سوى ضجره من الحياة و الطبيعة خارج تلك الأسوار. سيشاهد اليوم و يتحدث مع أناس لم يرهم من قبل: كل الذين تمردوا، تحت وطأة الفقر و الحاجة، يقودهم غضب و شهوة و طمع، لاهثين وراء سعادة ليست لهم، كاسرين قيود ليلبسوا قيوداً أخرى جديدة؛ بشرٌ طحنتهم رحى الزمن فصارت ملامحهم مشوهة و مضحكة و مريبة، طباعهم باتت غير آدمية و أجسادهم أقرب إلى الغابة، التى منها جاءوا و فيها بحثوا عن عدل، تحت أشجارها عاشوا يفيئون هرباً من ذل و ظلم. تركوها و أتوا هنا يمضون بقية العمر.

فى لوحة الحياة الكبيرة، هؤلاء هم الألوان الداكنة، تُجهد العين كى تراها، فهم مخلوقات عاشت و تموت فى ظلمة، منها و إليها يسيرون. هم خطوط سوداء تذكر كل عابر بالخطر، فيهرب و لا يتعداها، أو يقترب و تكون نهايته.

أطفال الماضى، وحوش المستقبل، كيف تركوهم حتى نبتت أنيابهم؟ و ما ذنبهم! هكذا جعلهم آباؤهم، جاءوا يقتلون مثلهم؛ هذا حال البشر.

 

صغار و كبار

كان سامح و عادل صديقان يذهبان إلى المدرسة كل يوم معاً؛ يجلسان فى فصل واحد، و فى نهاية اليوم يعودان معاً لمنزليهما. يتشاركان اللعب و الطعام و المذاكرة، الضحك و الحزن، و الأسرار أيضاً. يزور كل منهما صاحبه فى بيته من آن لآخر؛ و إن تغيب أحدهما يوماً، سأل عنه الآخر زملاءه، و ذهب لبيته لمراجعة دروس اليوم التى فاتته معاً. لم يكن لأى منهما أخ أو أخت، فكانا كأخين لبعضهما.

منذ أسابيع، صار عند عادل عصفور صغير. اشترى له بيتاً صغيراً، ثم وضعه فى شرفته ليكون بين الشمس و الهواء و بقية العصافير. صار يعتنى به و يضع له الطعام كل صباح بيده. يسعد بغنائه كلما استذكر دروسه، و يستيقظ على صوته فى بداية كل يوم.

دعا عادل صديقه ذات مرة لزيارته و مشاهدة العصفور. فذهب سامح إليه، متشوقاً لمعرفة أمر ذلك العصفور الذى حدثه عنه عادل كثيراً. حين رآه تعجب أول الأمر من ضآلة جسم الطائر، و لكنه سرعان ما أعجب بجمال صوته، فقد كان له صوت رفيع جذاب، أسر قلبه و أذنه معاً. كان سامح شغوفاً جداً بالموسيقى و الغناء و كان لديه ناياً خشبياً يعزف عليه كلما كان وحده بالمنزل. فأخذ يداعب العصفور مقلداً صوته، سعيداً كلما وجد العصفور يستجيب له.

كان بيت عادل بسيطاً للغاية، يقع فى أحد الأحياء الفقيرة قرب المدرسة. فكانت أصوات الباعة و المارة فى الطريق تأتيهما فى الشرفة، كما كانا يشاهدان الأطفال العائدين من مدارسهم يتبادلون اللعب و الضحك و الشجار. نظر سامح لغرفة صديقه التى كانت تحوى قطع أثاث قليلة، لكنها رتبت بشكل جميل. كما كان حوضا الزهر اللذان وضعهما عادل تنبعث منهما رائحة ذكرته بقريته و الطبيعة.

اقتربت الشمس من المغيب، بينما سامح يتابع العصفور بنظراته و لا يشعر بالوقت. لم ينتبه لاقتراب الظلام، بل كان منشغلاً مع العصفور محاولاً أن يتحدث معه "بلغة العصافير". استأذنه عادل كى يطعم الطائر، فذهب سامح للجانب الآخر من الشرفة ليشاهد صديقه و هو يطعم العصفور. لاحظ أن العصفور بينما هو داخل القفص يستطيع أن يلتقط الحَب من يد عادل بلا خوف. فأراد سامح أن يفعل مثله، فوافق عادل بسرور. ارتجف العصفور بعض الشىء أول الأمر، لكن سرعان ما شعر بالأمان و بدأ يأكل من يد سامح الذى عامله برقة و حنو شديدين، كأم تطعم صغارها. مرت دقائق...حتى بدا و كأن العصفور قد شبع، فاتجه إلى ركن من القفص ليرتشف بعض الماء بمنقاره الصغير، و أخذ ينظف ريشه فى سعادة و كسل.

كان عادل الفقير يطعم العصفور أى طعام لديه، كبقايا خبز يبلله بالماء ثم يقطعه قطعاً صغيرة جداً لتناسب فم العصفور، و فى أحيان أخرى كان يشترى له بعض الحبوب، كلما استطاع، كالسمسم أو القمح – فلم تكن له طاقة على شراء أى من تلك الأطعمة الفاخرة التى يأتى بها الأغنياء كى يطعموا طيورهم و باقى حيواناتهم الأليفة.

جلس عادل و سامح معا فى الشرفة بعد ذلك يتحدثان عن أشياء كثيرة. قال عادل: "أتعرف من أين أتيت بهذا العصفور؟" فرد سامح: "لا!" حينئذ بدأ عادل يحكى قصته: "لقد وجدته ذات يوم على سور شرفتى. كان قد بدا عليه الإعياء فظل ساكنا لا يتحرك بينما صدره الصغير يرتفع و يهبط بسرعة، كمن كان فى سباق. ظننته عصفوراً تائهاً قد ضل من صاحبه، و لم يجد أحداً ليطعمه. لم يتعلم يوما كيف يجد قوته بنفسه، كباقى العصافير الطليقة، فحط يائساً على شرفة غرفتى."

قال سامح: "ما أجمله من عصفور!" فقال عادل: "بل ما أشقاه! أتظن أحداً يستطيع العيش سعيداً و هو محبوس فى قفص هكذا؟" فكر سامح كثيرا فلم يجد إجابة. فقال عادل: "لقد سألت مُدرستى ذات يوم نفس هذا السؤال، فأجابت: ’يمكننا أن نكون سعداء و نحن سجناء، إن كنا نعيش مع من نحبه.‘" قال سامح: "أعتقد أن هذا العصفور يحبك، رغم تركك له فترات طويلة وحده، فأنت الذى تأتى له دائما فى نهاية اليوم، تطعمه و تقضى بعض الوقت معه."

نظر عادل إلى السماء و قد تلونت بلون الغروب. تذكر والده الذى مات منذ سنوات، فقد كان هو أيضاً ينتظره حتى يأتى آخر اليوم و معه الحلوى التى يحبها... لكن أين هوالآن؟ تنهد عادل و مسح دمعة لم يستطع منعها، ثم قال: "ماذا لو افترقت عن العصفور، كيف سيعيش؛ و إن عاش هل سيكون سعيدا بعيداً عنى؟" كان سامح يدرك مشاعر صاحبه و شدة تعلقه بوالده الذى فارقه فى سن مبكرة ليواجه الحياة وحده. ربت برقة على كتف صاحبه قائلاً: "سيكون دائماً سعيد إن وجد من يحبه، و حينئذ سينساك كم نسى صاحبه الأول، فلا تعود الذكرى تؤلمه [كان سامح يعنى العصفور و يعنى عادل نفسه—محاولاً تعزية صديقه]، إنه لا يبحث سوى عن الحب أينما وجده. أنت تعلم أن تعلقنا بالآخرين قد يذهب مع الوقت، أما ما لا ننساه هو حب الحياة فهو دائماً ينمو فينا على أى صورة و مع أى شخص." قال عادل: "حسنا،ً من الآن لن أحب سوى الحياة، سأعيشها كما هى!" نظر سامح شاخصاً نحو صديقه و تردد فى داخله، فقد قال ما قاله فقط للتخففيف عن صاحبه، دون أن يدرك جيداً حقيقة ما قاله. لكن عادل أدركه.

ظل سامح شارداً؛ كان يفكر: ما هو الحب؟ أين هو لنمسك به؟ أهو يتنفس مثلنا؟ و كيف نحب ما لا نراه؟! افترق الصديقان، و فى نفس كل منهما أسئلة بلا أجوبة، ستترك للحياة كى تجيب عنها.

* * *

ذات صباح، و فى فناء المدرسة بينما كان التلاميذ يلعبون، يقضون بعض الوقت قبل بدء الدرس...توقف اللعب. حدثت مشاجرة عند أحد الفصول، كان المستمتع الوحيد بها هم هؤلاء الذين تجمعوا للمشاهدة، كأنها تسلية أو مغامرة جديدة تخفف ملل الدروس. حزن عادل لما كان يرى و صار يصلى فى داخله أن تنتهى تلك المناوشات الصغيرة، كما أشفق سامح بمن كانوا يتشاجرون، و حزن هو الآخر جداً، فقد كان اثنان من المتشاجرين صديقين له: كيف تحول الأصدقاء إلى أعداء بسرعة هكذا؟

ردد فى داخله صلاة قصيرة ثم استجمع شجاعته و انسل بين التلاميذ حتى وصل إلى من كانوا يتشاجرون. رأى محب – الذى لم يكن محباً – و قد سال الدم من رأسه و هو يردد متوعدا بالانتقام من كمال – الذى ينقصه الكثير – و قد أحاط به زملاؤه ليبعدوه عن محب. صار يسأل الجميع عما يجرى و ما سبب الخلاف. لم يجبه أحد.

عندما هدأت ثورة كمال أجاب سامحَ قائلاً: "إنى لا أعلم سبب المشاجرة، فقط فوجئت بمحب يأتى إلىّ و يدعونى بسباب و شتائم لا أعرف سببها واصفاً إياى بالغش و عدم الإخلاص!" دق جرس انتهاء الفسحة و عاد التلاميذ كلٌ إلى فصله. أثناء الدرس طلب الأستاذ من كل أحد أن يقدم واجب اليوم السابق ليصححه. فوجد سامح الفرصة سانحة ليسأل محب أيضاً عن سبب المشاجرة و لمِا غضب من كمال، لكن محب تجاهله و لم يرد. كان سامح يأمل أن يوفق بين صديقيه، لكنه شعر بيأس و أسى فلم يكمل مسعاه.

بينما كان يجلس حزيناً لأمر أصحابه، جاءه كمال و بدأ يتكلم بصعوبة و هو يكتم دموعه و غيظه معاً: "أتعلم يا سامح أنه يتهمنى بسرقة الشمع من الكنيسة! كيف يقول هذا عنى و هو يعلم جيداّ كم أحب كنيستى؟ بل إنى أضع من مصروفى كل أحد فى صندوق العطاء. أعترف أنى كنت قد أخذت ذات يوم شمعة واحدة، و لكن كان هذا فقط من أجل البركة و ليس السرقة."

كان سامح يحب كنيسته هو أيضاً، لكنه...لم يفكر من قبل أن يفعل شيئاً كهذا. إنه يعلم أن كمال طيب القلب و النية لكنه لم يدرِ كيف يوضح له أن ما فعله شيئاً خاطئاً. غريب أن حب سامح للكنيسة يجعله لا يسرق، بينما حب كمال لها جعله يسرق. هل يدين صديقه على ما فعل بينما الله نفسه قد لا يدينه؟ و كيف سيحاول أن يصلح الصديقين معاً و هو لا يملك الكلمات أو القدرة على ذلك؟ احتار فى الأمر كثيراً، لكنه فكر ذات مرة أن يجمعهما معاً فى فريق واحد للعب الكرة. جعلهما يلعبان جنبا إلى جنب...فنجحت خطته. اختفت آثار خصومتهما، بل نسيت أسبابها—إن كان لها سبب.

* * *

فى مساء يوم، بعد عودتهما من المدرسة، كان عادل و سامح يسيران فى شارع مزدحم و هما يتحدثان بصوت مرتفع، فقد كانت الضوضاء عالية جداً حولهما. طلب سامح من صديقه أن يذهب معه لمكان عمل والده، كى يستأذنه فى بعض النقود قبل الخروج معاً، فوافق عادل و تبع صديقه. كان ذلك الجزء من المدينة يعج بالحركة و المارة من كل البلاد قد أتوا لشراء حاجاتهم. صارا ينظران إلى اللافتات، فوقعت عينا عادل على لافتة، جعلته يشد على يد صديقه بعنف، و صرخ: "هيا نذهب من هنا!" ذهل سامح قائلاً: "ماذا جرى؟!"

بعد بضع دقائق توقفا ليلتقطا أنفاسهما ثم أخبر عادل صديقه بصوت متقطع: "أرأيت ذلك المتجر؟ ... قد كان أبى يعمل هناك...و الشارع الذى سرنا به...هو نفسه الذى صدمته فيه السيارة." فصرخ سامح: "ماذا؟!!!" و كاد أن يسقط على الأرض. سأله عادل: "هل أنت بخير؟" ظل سامح صامتاً...ثم تكلم أخيراً و قال: "إنه المتجر الذى يملكه أبى!"

نظر عادل إلى صديقه و هو لا يصدق عينيه. فوالد سامح هو الذى قتل والده منذ عدة سنوات: دهسه بسيارته الفارهة أمام أعين المارة و العاملين فى المتجر. ابتعد عادل إلى الوراء، ابتعد بجسده و قلبه...لم يجد الكلمات، و مضى فى طريقه صامتاً. افترق عن صاحبه، و سار وحده...حتى اختفى وسط الغرباء.

* * *

مرت عدة سنوات. ذات يوم كان سامح يجلس فى غرفته وحيداً. لم يسمع نداء أمه له تدعوه للعشاء. طرقت الباب عدة مرات ثم فتحته برفق، فرأته و قد ... كان أشبه بشخص مجزوب أو شريد فى الشوارع.

لم تكن النغمة التى صار يرددها منذ الصباح سوى إحدى تراتيل الطفولة البعيدة: أغنية تائهة جاءت تبحث عمن أحبها و تركها فى قبو الذكريات وحيدة، عاشت هناك سنيناً بين الأدراج مبهمة و لا يعطى لها بالا أحد...فجاء هو و أعطى لها الحياة.

كان يردد كلماتها بشغف، محركاً يديه و قدميه معها كطفل عاد لطفولته و لا يخجل من عواطفه. احتضنها كأحد الأصدقاء لم يره منذ زمن، و استقبلها ببشاشة و فرح بعد أن أتته مسافرة عبر كل هذه السنوات. كم من مرة سار وحده على طريق الحياة، يبكى كولد صغير تركته أمه... لكنه نسِى بكاءه الآن حين رآها تعود، تحمل معها السعادة و لعباً جديدة يحبها: وجد فيها ضالته، فانغمس فى اللهو و اللعب غير عابئ بهمٍ مَضَى أو همٍ سيجىء.

بالبيت كان قد تعلم كلماتها و هو بعد صغير، فصارت تلحّ عليه و لم يستطع إيقافها لأنه أحبها. مرت أعوام كثيرة منذ سماعه لها أول مرة، فجاءت اليوم تحمل معانٍ لم يعرفها من قبل، تدعوه للعودة إلى براءةٍ مضى زمانها، منذ أن بدأ هو و الآخرون سباقه المحموم مع الحياة، ذلك السراب الذى يعدو وراءه كل أحد، و لا يدركه سوى قليلين. كان مازال يخطو خطواته الأولى بالحياة حين لامست أذنيه ذات يومٍ فى طفولته، فرافقته منذ ذلك الحين إلى اليوم. استمع إليها صغيراً، بينما ترددها أمه له فى الفراش و هو يستعد للنوم، أو حين كان يرتدى ملابسه فى الصباح، متأهباً للذهاب مع أصدقائه إلى المدرسة.

توقف عن الغناء للحظات و سكنت حركته، ثم جلس يفكر متأملاً حياته: استعاد بعقله قصتهما الطويلة معاً، محاسباً نفسه عن قرارات ود لو لم يتخذها، و أمنيات تمنى تحقيقها فلم يستطع؛ آمال كثيرة اجتهد أن تكون واقعا فأخفق، و صار يأمل أن يجد من العمر ما يكفى ليحاول ثانية. جعلته النغمة يتذكر أحزاناً قديمة، ثارت عليه الآن و لا يدرى ما السبب. فتوقف بأفكاره ليلتقط الأنفاس فى طريق الحياة، ناظراً من بعيد إلى ذاك الماضى الذى غاب إلى الأبد و لن يعود.

شعر بأسى و تذكَّر هموم حاضره الكثيرة، حين ردد هذه المقاطع البريئة، فأدرك كم هو غريب الآن عن تلك السنوات. نزلت منه الدموع بغير إرادته فاستسلم لها راضياً، فى ألم ممزوج بفرح، أثارته فيه تلك الصور.

ازداد صدى النغمات الآن فى عقله و بات طنينها عالياً كسرب من النحل قد هاجمه. صارت تأتيه مع صديقات لها حتى أحطن به: أغان طفولية أخرى، فى أول الأمر بدت بريئة و عذبة، لكن حمل كل منها فى داخله آلاماً حادةً لم يدرك قسوتها سوى مَن قبل فى بساطة أن يستقبلها فى عقله، أو يرددها فى قلبه. توالت بلا توقف، واحدة بعد الأخرى، حتى كاد أن يغشى عليه.

صار صوت النغمة الرقيقة التى أحبها يعلو شيئاً فشيئاً، حتى أسكتت كل صوت غيرها بالحياة، و بدأت تتابع بسرعة كوسواس. تدافعت النغمات بقوة فخرّ ساجداً، مقراً بضعفه أمامها و داعياً إياها أن تتركه. اهتزت كل مبادئه، كطفل أخطأ ينتظر عقاب والده: أخطأ فى اختيار الطريق و الرفيق، حين اشتد عوده و رأى فى نفسه رجلاً قادراً على الاختيار. حاصره حزن أقوى منه، فبات لا يؤمن بسعادة أو يسعى لتحقيق أحلامه: رأى حوله من كل جانب شقاءً يأتيه و لا يعلم كيف يواجهه.

لم تحمل كلماتها الطفولية أى أفكارٍ عميقة، لأنها كتبت لصغار، فكانت معانيها البسيطة تخاطب القلب لا العقل؛ و كانت أفكارها، أعنى فكرتها الوحيدة، تدعو كل البشر و كل الكائنات للفرح. لم يكن للجدل و الفلسفة فيها مكان، فلم تُجعل يوماً لذلك. زادها كل هذا غموضاً و قوة كأحد الكائنات الأولية: صغير جداً، لكنه يعرف كيف يتسلل لداخلك دون أن تراه، و يسكن فى جسدك يفعل به ما يحلو له.

رددها مع أصدقاء طفولته، فى البيت و الشارع و المدرسة، بسذاجة و حماس كأن بها كل معرفة الكتب؛ كصلاة لا دين لها يرددها كل البشر، أو تعويذة ستحمى صاحبها من الموت و تهبه الحياة للأبد. ذلك الشغف الطفولى يرافق كل أحد و فى كل بلد حتى أن يموت؛ فإن هم صاروا يوماً شيوخاً، يبقى اشتياق دائمٌ مع من ظل فى داخله طفلاً، مهما تقدمت أعوامه.

كان منطرحاً على الأرض شبه نائم، حين تنبه لحاضره فجأةً فصار يخاطب نفسه: "قد فارقتنى براءتى منذ زمان، ماتت و لن تعود – فلما أردد تلك النغمات؟ ليتنى ظللت طفلاً، و ما عرفت الحقيقة و أبصرت نور الوجود، ذاك الذى سينتهى كل شىء فيه يوم أموت. أهكذا نغمة صغيرة تشقينى، توقظ جراحاً و ألماً أقوى منى! ليتنى أمحو كل ذكرى، فأصير كما ولدت—عرياناً من كل حزن أو فرح.

"بقوة عقلى و حبى لحاضرى، سأوقف تلك الكلمات و أطرح الماضى وراء. سأعيش لحظتى و أنظر لغدى ناسياً كل ما فاتنى. كل مسراتى القادمة ستكون فى قبضتى، أقودها و لا تقودنى، و لن أعبأ بما ليس معى، أو أشتاق لذكرى أو أموات. بهجتى ستكون فى النور من الآن، أمام عقلى و الحقيقة، و سأودع الخرافات؛ ما أشد حاجتى لحب الحياة و الزمن قبل أن يغادرانى و أبكى لذهابهما. اللحظات: هدايا لا تنقطع، بئر من المسرات، ذروة الانتشاء فى نور الحقيقة—ليست توتراً أو ثورة تمضى، بل فرحاً، خمراً أشربه و عينى مبصرة.

"كفى يا ترانيم الصبا، اتركينى و ارحلى للأبد! فأنا الآن رجل، عندى من القوة و العقل ما أبنى به مستقبلى: أملك أدواتى و أعرف كيف سأرسم بها حياتى."

* * *

بعد عودته من رحلة قام بها مع أصدقائه، أدرك كم أصبح غريباً عن الآخرين. كيف تنتهى صداقات الطفولة ليأحذ كلٌ طريقه فى الجياة. كتب سامح فى مذكراته:

ذهبنا للحصول على المتعة، فأخفقنا فى الحصول على لحظة سعادة واحدة. الهواء الذى تنسمناه بات كالهواء الخارج من صدورنا؛ البيوت و الناس و الطبيعة حولنا ما كانت إلا ظلال و خيالات نرتسمها من خلال رموش أعيننا، ننظر منها لداخلنا و لا نخرج منها بشىء. السماء صارت كسقف قريب من رؤوسنا و كدنا أن نختنق...فكان لابد من التوقف. أية رغبة فى الاستمرار كانت ستعنى المزيد من إيلام الروح و تعذيب أنفسنا بلا داع، و نحن نخدع عقولنا و قلوبنا معاً.

لم تسعدنا الأغانى التى رددناها بلا انتباه، أو الطُرف التى تبادلناها بلا هدف. تقافزنا كالأطفال نتظاهر بالبراءة، بعدما ذهب من كل منا طفولته و لم ترجع أبداً. كلٌ صار يحكى قصته و يريد من الآخر أن يستمع له، و لا يقاطعه، و يفهم كل ما يقوله. كالسكارى كنا نهذى، حتى فقد كل منا توازنه ككرة سقطت من أعلى جبل، و لم يوقفها أحد.

بتنا فى وحدة رغم كثرة أعدادنا، و كنا نخجل أحيانا من كشف أحاسيسنا و المجاهرة بعبث ما نفعله، لكن أبينا إلا أن يلعب كلٌ منا دوره للنهاية. مثلنا أننا سعداء كى لا يسخر منا الآخرون، واصفين إيانا بالملل. أية صداقة تلك التى تجمعنا و نحن نكذب، لا نستطيع أن نقول ما نريد مع من نحب! لم يكن هناك حب، و لم نكن أصدقاء، مهما أنكرنا الحقيقة. فى المرة القادمة سأختار الصحبة قبل المتعة؛ فإن فشلت فى الثانية، لن تزيد الأولى مرارة الفشل.

ما أروع الصداقة، حين تكون صادقة! أن ترى قلباً واحداً فى جسدين، عقلين يتخاطبان و ينسجان معاً أزهى القصص لتظل خالدة. تنمو بينهما رابطة لا تُرى، و قوة لا يقوى أن يسلبها أحد. قوة حقيقية، و ليست كالمشاعر الدفينة، الغامضة، العاجزة أن تعبر عن نفسها. و لكننا نمل الصديق و نبعده بقساوة فريدة عن طريقنا كى لا يحجب عنا الرؤية أو يشوش بآرائه على آرائنا. كل اختياراتنا فى الماضى أكدت كم فشلنا، فى علاقاتنا و المحبة، و انتصرت بدلاً منها عزلتنا و الفردية. لم نخرج يوماً من سجن ذواتنا، لنحلق فى سماء الآخرين و نصير نقطة تسبح طليقة فى مدار اللانهاية. لم يتطور البشر ليصبحوا ملائكة، أو كائنات من نور؛ سنموت محدودين كسائر المخلوقات، و لن نتعدى طبيعتنا البشرية. فشلت كل محاولات الارتقاء، فلماذا البقاء و الاستمرار فى هذا الطريق و هذا النفاق؟ أين إرادة التغيير و التسلط على الطبيعة، أين العقل و المعرفة و سائر ملَكات الطبيعة التى سخرها إله الطبيعة – ذاك الذى لن نصل أبداً إليه، بأجسامنا الثقيلة و عقولنا الصغيرة!

 

الخائن

لن تنقذنى اليوم شفاعة، لن تبرّئنى أعذار. كان جنونى أكذوبة، ادعيتها و أنا بعقلى. سأحاسب عن كلماتى، و كل إهانة فى الأقداس ستثأر لنفسها مرات. ويلى من مرارة كأسى، احتملت كل الجرم وحدى، سأشرب الكأس وحدى. أوصلت عقلى لجنون، و طفت أردد على الناس رأيى؛ أضرمت النار فى جسدى، فصارت متعتى أن تتحلل نفسى حتى تصير كريهة، و لا أعرف كيف أحييها: ستقابل قاضيها صامتة، سألزم الصمت اليوم، يوم حسابى—آه لو لا تطاردنى أفعالى!

فى أقذر المدن تجدوننى، فى أشهر نوادى الفجور تروننى. هناك أجلس بين الكئوس، أشم بخار الخطايا، أتابع بلهفة أنفاس البغايا. لكن ... هل تخطفنى الآن نشوة، حنين لذكرى مقدسة، أو متعة من متع الطفولة؟ — عبثٌ النظر للوراء، و الثوانى كالغول تجرى أمامى. ليت اللوحة تكتمل بموتى ميتة شريفة، شهيداً من أجل فكرة، و كل أفكارى جنون: حماس بلا عمل، أفضى إلى عدم.

لو كان الحق هدفى لصوبت بملء مهارتى؛ لكنه غائم، يملأ كل الوجود، فضللتُ—و ما عرفت التصويب. عاجز عن الخير فأختار الشر ليأسى؛ صرت له عبداً حين وافقنى. كنت وحيدا فى حيرتى فأتى ليزيد جهلى. أحببت، و أُحببت، و اختنقت من كثرة الحب: حب أقدمه و لا يعود، لحظات تهدم لحظات، طاقة تحللت مع الهواء—و أنا معها اختفيت.

البشر! أشتهى الموت أو الحياة دونهم؛ أكتشف كل يوم—كمال الله و نقص البشر. "الله! خذنى إلى قمم الجبال و اتركنى هناك! أخفنى فى صحراء الأرض أو احبسنى فى غرفة: أعيش سجيناً إلى الأبد! لا تدع أعيناً ترانى إلا عينيك."

يا دماء البشر! لما تعكرتِ بالإثم و لم يعد لطهارتك سبيل! اختلطت بدم المسيح، بلا فائدة؛ لم يشفك سجود أو طقوس أو تسابيح! أرى إبليس يبتسم، و يسوع أسمعه صارخاً: "ضاع الفداء و الصلب!" والعذراء بجانبه، تنتحب ولدها، ستبكى إلى الأبد! صمتٌ فى السماء مخيف: غضب ينبئ بكارثة، تنتظر البشر!

يالشوقى لرجوع الحب! ماتت براءتى و نفسى، حين ماتت أحلامى. رآنى أحبائى و تجاهلونى. ساروا فى طريق الفناء، ليختاروا الموت: لم يعرفوا الحياة، لم يعرفوا الحب. ذلك ثمر الحرية: تلك اللعنة الأبدية! أرادهم الله آلهة صغيرة: تعبث فى الخليقة، لتخلق الحقيقة. لا، لن أكون مثلهم، أريد سجنى و خلاصى معه: أنا عبد لله، إذاً أنا حرٌ—موجود.

ليتنى ما تركته و ذهبت إلى أصدقائى—أحبهم، لكن ليس كأبى السمائى. وسط الناس رأيته و لم أعرفه، لأجلهم تركته و لم أتبعه؛ فامتلأت روحى بجروح، لم يطفئها منهم أحد. طرقت كل باب طالباً عوناً أو أملاً أو دعاء. فشلت! لا لن أحبهم مثله، لن أؤمن بذراع البشر!

مخلوق صغير يلعب فى الأرض، طفلة تكتشف الحب، و أم تغنى لأولادها ... صور السعادة من حولى. هم الله معى هنا، فيهم أراه: السماء و الأرض صارا واحداً. و أنا ما أفعل سوى النظر—لأنى بعد فى سجن الجسد. حين يظلم الوجود، و العقل تخنقه شكوك، تأخذه ليأسٍ و جنون، لا يظل من أمل ... سوى تلك الصور.

مرت سنون كثيرة كنت فيها نائماً، غافلاً أعيش فى سبات ... كالأموات. لكنى لمّا نظرت—وجدت سعادتى، أمامى و لا أدركها. أستيقظ الآن؟ أمازال هناك وقت؟ لأملأ اللحظات بمتع؛ من اليوم ستكون هذى عقيدتى - أليست هذه وصيته: إله الطبيعة و السماء؟ الجمال و الفرح هما صورته، هنا فى الأرض، لوحة الوجود التى رسمها. سأثبت النظر فيها—لأكون جزءاً من لوحته.

 

الساهر

كانت قد جاءتنى بالأمس رؤيا ما زلت بعد أتذكرها. كنت جالساً وحدى ليلاً، الكل نائم و السكون يملأ الغرفة، و لطالما أتتنى رؤىً كتلك فى ذلك الوقت: يدفعنى الصمت العميق نحو السير فى طرقات العقل فأرى أشياء ما كنت لأراها فى صخب النهار، صمتٌ كذلك الذى سبق خلق العالم، موتٌ يدفعنى لخلق الحياة من جديد، كأنى الإله أجلس على عرش الكون، أحرك الأحياء و الموجودات فى رقعة شطرنج. تشاركنى أرواحٌ هائمة صمتى و تؤنس وحدتى كائنات الليل، لا نعرف النوم بل نسافر معاً إلى الحلم، نصنعه و نحن يقظون. أرسم الأيام و أفكر فيما سأفعل بغدى، إن جاء و لم أمت، إلامَ سيؤول واقعى و يأخذنى العمر. أبنى و أحلم، و أعلم أنى سأرحل فى النهاية، و ترحل الرؤيا لنبقى فى عقل الكون ذكرى لأحياءٍ بعدنا.

يأتى الصباح و أجد نفسى تحنث كل وعود الليل، تعاف الوجود و تأبى السير فى دروب الأحياء، ترجع للذكرى أو الرؤيا، تبحث عنها و لا تجدها ... فتحب الموتى. برودة الليل تحملها أينما ذهبتْ، فترانى مع الآخرين لكن وحدى، كالنائم يمشى و هُم كحلمٍ حولى: أصرخ، أقترب لألمسهم، فيختفون كالطيف. عقلى فى اضطراب و حواسى لا تستجيب، لحرمانى من راحتى و نومى؛ ثائر المزاج، أقاتل أعداءً لا يُرون، و لا يرضيتى نصرٌ.

النائم و الثمِل و المجنون، كلٌ غائبٌ و إن كانوا حاضرين؛ أمواتٌ بلا قبور، لم ترضهم الحقيقة، فعشقوا الغيب و غابوا. "فن و إلهام و جمال" أسماءٌ لافتة لآفة العقول، و أغنية الحائر الموهوم: نشيد الفاتح المهزوم الذى يصول بين العقلاء، و إن أخفى داخل رأسه حماقة كل الجهلاء.

 

النذير

أصدقائى! أنصتوا الآن لرأيى و لو مرة واحدة. ليست الإنصات أن تفسحوا لخطابى مكانا صغيراً فى عقولكم، بل أن تكونوا بلا عقل و تعيشوا هذا الرأى خالصاً، كامل المعانى و الصور. أنصتوا جيداً!

إن بقيت هنا بينكم فحرىّ بى أن أموت، لأنكم تؤذون كل شىء، تقتلون الحياة بأشكالها أينما وُهبتْ لكم: لذا ستعرفون الآن لما اخترت الموت، معطياً به درساً للأحياء. أنا من يستحق الفناء و قد عجزت عن تغييركم، فربما ستبقون أنتم هنا لتشهدوا نهاية أوجاعنا و حلاً لما أصابنا – حينئذ لن أندم لقرار موتى، فذكرى فنائى ستحيا للأبد فى نفوسكم، و ليس أقدر من الموت على وهب الحياة. الموت! ملهم الفلاسفة عبر العصور، محرك الشعوب و الكائنات و الحياة: الكل يجرى، تارة منه و أخرى إليه.

ستكون محاولة و قد لا تصيب! لا أعلم ما سيكون مصيرى إن فشلت، لكنى أؤمن أن الله لن يفنينى و قد مت من أجل فكرة – و هو الكلمة التى سبقت كل فكرة، فوهبت قوى الحياة و الموت. سبيل الموت الآن موعده لنسلكه، بعد أن فشلتم فى طاعة أو حب الحياة. كلاهما هبتان عظيمتان قد جعلا لخلاصنا، و ما الموت بهلاك، بل انتقال لحياة أفضل—فى السماء، كذلك على الأرض. الموت الحقيقى هو فى تخاذلنا عن استعمال وزناتنا التى وهبنا إياها.

أصدقائى، كانت هذه آخر رحلة، و آخر محاولة لى و لكم. إننا أموات هنا، فلما نتعلق بحياة قصيرة! اليوم آخر مرة ستروننى أبكى، فكل دمعة ذرفتها ستتجمد للأبد لتصبح حجراً كريم يزين الحياة لمن سيأتون بعدى. حين يتذكرون وجه الميت الذى ترونه الآن، سيدهشون لجمال تلك التحفة و عظمة ذلك العمل الذى أخلصت فى إبداعه، و كان اسمه "نفسى." سيبصرنى المبصرون، ولن يلام الضريرون أو الأطفال، لكننى الملوم الوحيد إن كنت مخطئاً فى فهم البشر—و لكننى لا أظن ذلك.

إن نجحتم أرجوكم أن توقظونى لأشهد ثمرة موتى، أفيقونى تلك الساعة التى سينتصر فيها البشر، هشموا رأسى بحجر أو معول أو طلقة رصاص، إن كان ذاك سيجدى! أريد أن أراكم سعداء، لكنى لا أدرى من يعيد الحياة لى لدقائق، فقط لأبتسم فى رضا ثم أموت. أما الآن فمكانى ليس بينكم، بل بجوار أبى الهول و كل القدماء الذين وهبوا لنا الحياة بموتهم، سأنتظر بجوارهم ناظراً إليكم فى شغف، أسجل ما سيفعل الزمان بكم و من منكم سينتصر: أنتم أم هو. قد سألت أبا الهول ذات يوم فى طفولتى: "كيف ستكون النهاية؟" فلم يجب. فلنجلس إذاً بجانبه و ننتظر ...

لا تدفنوا جسدى إلا مع الفقراء، و لا تقدسونى بل اتركونى لأفنى و أعود من حيث جئت. لا تتبركوا سوى بكلماتى، و لا تحفظونى فى ضريح بل احفظونى فى عقولكم. و لا تسألوا الله كثيراً أن يعيدنى لكم، فى رؤيا أو معجزة، فالآلهة حرة و لن تجيب بشراً صغار، كسالى مثلكم. لا تمضوا عمركم هباء ...

انتظرونى على الشاطئ الآخر، هناك ستجدوننى أنتظر، أرحب بمن سيلحق بى ممن يغادرون الحياة. لكن للأحياء هنا أقول: "لا تجهدوا أنفسكم فى بحث، فلن تجدونى سوى جثة طافية، بلا قلب أو روح." لا تقلقوا بشأنى، فالله يعرف كيف سيخلفنى من جديد، لتعود دورة الحياة و الموت... أليس هو الله؟

و هنا سمعت صوتاً رهيباً زلزل أركان الأرض الأربعة: "من أنت لتقرر شئون الحياة أو الموت؟"

فسقطت على الأرض و رددت خائفاً: "آسف سيدى! قد نسيت أن أبدأ عملى بصلاة و أتلو اسمك قبل كل شىء، لتبارك بصيرتى و تصير كل أعمالى مقدسة!" حينئذ سكت الصوت و نهضت مرتعشاً و أصدقائى حولى فى ذهول مما سمعوا؛ بعضهم كان قد أغشى عليه، و البعض ركض بعيداً، و الآخر اختبأ. لكنهم عادوا كلهم الآن و صرنا نتباحث فى الأمر. لم تعتد طبيعتهم البريئة، التى مازات تخطو بحذر فى عالم البالغين، تلك الشدة فى الطبيعة الإلهية و ذاك الغضب الذى خاطبنا به – كيف و هم الذين تعلموا صغاراً أن ينادوه بالأب السمائى! أما أنا فلأنى كنت قريباً من الله كالأنبياء، أعرف غضبه و حبه معاً، عطفه و قساوته، لم أفزع مثلهم، بل قمت من سقطتى على الفور بعدما ذهب الصوت؛ لم أخف لأنى كنت أحبه، برغم كل شىء. أحببت سماع صوته، الذى أعطى قلبى عزاء لم يكن بين البشر من يعطينى إياه. علمت أنه لا يريدنى أن أموت، فقررت البقاء ...

 

مناجاة

ربى و سيدى و صاحبى، لما تركتنى حين مددت يدى؟ ماتت زهورى و أيامى بعدما جفت ينابيعى و غابت جذوة سعادتى. صرت واهناً بلا شفاء، أجلس وحيداً فى الظلام: أرى مصابيحى انطفأت، و ليالٍ صاخبة خمدت؛ أنظر لجسدى تذهب منه الحياة. أرقد ساكناً فى سبات؛ أنتظر موتاً أكيد.

تعال سريعا، و اقتل شياطين اليأس المتوهجة. اسحق أحزانى الكثيرة، و ضع يدك على شفاهى فتبتسم من جديد. ليملأْ ظلمتى نورك، و أغرق فى متع وجودك، فموتى معك خلاصى. يا لسنينى الكثيرة، ها هى ترقص سعيدة، تنسى كل آلام الماضى حين تراك.

أختنق! بسرعة تعال، فستجدنى غارقا فى الدموع. سترى شبحاً، مرت عليه سنوات: يبكى وحده فى سكون، بعدما أخذته ظنون ذهبت بعقله، و سحقت قلبه كما تُسحق أصلب الصخور. لو أنك ملاك، لقمتُ الآن و فتحت لك نافذتى، كى تنزل و تجلس معى، فتنير البيت و العمر. لتتركْ سماءك العالية لأجل محبٍ مثلى! إذ كيف سأحتمل الزمان فى انتظار، إن هو أتى بك أو رفض ... أم أقتات بالوهم طوال الدهر؟

آه! تعبت من الصراخ، و ما بقى منى سوى صوت، لا يسمعه غيرى أحد. فالصمت يحجرنى، يجعل منى تمثالاً و يُفنى الروح منى، ما لم أبكِ و أصرخ. سأنادى حتى تسمعنى، بقوة شوقى و يأسى؛ سيذوب جسدى تحت الشمس، سيمزقنى البرد، و يتضاحك علىّ الغرباء ... لكنى سأنتظر.

ما أجمل الماضى، حين تمضى السنوات، و نريد عودتها ... بلا جدوى! لا يبقى حينها سوى موت ينظر إلينا عابساً، أو غاضباً يتعجل النهاية! أريد البقاء هناك مع الذكرى و لا أرجع أبداً، أن أولد من جديد و لا يعرفنى الكبر: أعيش للأبد بين من عرفت و أحببت ... و لا نفترق؛ تحمينى جدران الطفولة و أفراحها من وحوش الدهر، و توقف زحف العمر. ليتنى أذوق من كل البدايات رشفة، ولا أحتسى أبداً سم النهاية. أين أنت لتدفع تلك الكأس البغيضة عنى!

يا شفاء قلبى المريض، و خلاصى من داءٍ مميت، أريد رؤياك قبل أن أموت. أشتاق لصوتك و حديثك العذب؛ فإن ساعة واحدة التقينا، سأبث إليك فيها كل أوجاعى، و يصير لموتى عزاء. لِما أخذك الزمان منّى و لم يرجعك، و أى ذنب عاقبتنى السماء برحيلك؟ من يعيدك إلى صدرى الآن، لنتبادل الحب كما كنا: فى سكون الليل، تحت الأشجار، خلف الصخور، فوق الجبال؛ فى الظلام و النور، فى الحزن و الفرح: بالحب كنت معى تغنى، و كنا به نزين العمر.

 

أبى السمائى

ثم تابع قائلاً:

و الآن يا أبى قد صرت كرجل يغرق و لا يرى أى عابرٍ ليناديه فينقذه. لا أقوى على التنفس، و يأسى يغمرنى و يأخذ الحياة من جسدى، فأعجز عن التفكير و لا ترى عينى أى سبيل للخلاص.

لما تركنى الله و قتل سعادتى؟ ملأ حياتى ألماً و قيوداً بلا عدد، فما كان منى إلا أن بتُّ أحبه، لا كأبٍ، بل حاكمٍ يُكره رعيته على طاعته، فلا يحبونه بل يخافونه. لم يعد الصديق القديم الذى عرفته فى أوقات كربى يأتى ليخفف عنى. لا، لم يبق لى سواك الآن يا أبى، فخبرنى ماذا أفعل! ليت الله كان مثلك: يرانى و أراه، يمسك بيدى الحائرة فيقودنى و يطمئننى وقت الضيق. أنت تمسح دمعى حين أهرع إليك بآلامٍ لا حصر لها، و تحتضننى وقت يرذلنى الآخرون ... لما لا يفعل ذلك هو؟

أقف كل صباح أمامه، منادياً إياه مستغيثاً، فلا أراه إلا صامتاً، لا يجيب. أتحدث لساعات، و لا أسمع سوى صدى عزلتى التى لا يشاركها معى أحد. لو أننى كنت أعيش فى أحد الأزمنة القديمة، حين كان الناس يعبدون تلك الآلهة الصماء، لكنت أقل شقاء، لمعرفتى أنها لن تنطق أبداً، فلا يداعبنى أمل، و كنت وجدت فى الجهل سعادتى. أقرأ عن هؤلاء الأولين و أرى كيف كانوا سعداء، يغادرون معابدهم فى نشوة كالأطفال، فيغنون و يرقصون بعد أن أجيبت صلواتهم أو هكذا كانوا يظنون. يتبادلون قصص و أساطير ترضى خيالهم البدائى، و لا تخالف ندرة معرفتهم و علمهم الضئيل. كانوا غير عابئين بالدهر أو الناس أو الموت، و يعيشون فى سذاجة كم تمنيت أن يكون عندى مثلها. لكننى عرفته هو و أحببته هو، و أردت أن أقضى عمرى كله معه – فأين هو؟ ما بى الآن من يأس يفوق الأرض ثقلاً، فأين إلهى الذى أسلمت نفسى له كى يحملها معى، أو يرسل لى أحد أتباعه فى الأرض هنا ليرشدنى!

لما هو هكذا: تائه فى ضباب، غائب لا نراه، و صامت إلى الأبد؟ أجتهد فى تصوره، فتذهب منى صورته وسط أفكارى الكثيرة، كشخص نحبه سافر منذ زمن فما نعود نذكر كيف كان وجهه. لما يظل فى سماه ولا ينزل هنا ليرى ما قد أصابنى و أصاب آخرين من أبنائه... أهكذا تنسى الأم صغارها؟

ما من ألم فى حياتى كألم وحدتى، مع الآخرين و نفسى و معه: وحيداً فى صلاتى، وحيداً فى أسفارى و قراءاتى، فى نومى و يقظتى، حياتى و موتى. كنت أظن الله معى دوماً أينما ذهبت فلا أخاف من العزلة. علمتنى مدرستى و أسرتى ألا نخاف الظلمة أو أى عدو، فالله ينير الظلمة و أقوى من أى عدو. كم كنت سعيداً ببراءتى – لكنها تركتنى، و صارت ماض لن يعود.

أبى! أنسنى الماضى فقد بات عقدة حاضرى، تذهب بحياتى و تصل بعقلى لجنون. نقش فيه آبائى الكثير على عقلى الصغير، حفروه بإزميل و اغتالوا براءتى! أعجبتهم ذاكرتى كطفل، فباتوا كإناءٍ يملئونها بأشكال من العلم و الوهم سواء. كانوا أسياداً و أطفالهم العبيد، يفعل كل منهم بأجسادهم و عقولهم ما يريد. و الآن، صرت أتمزق، و لا ينقذنى منهم أحد؛ كشخصين يعيشان داخل جسد: طفل من الماضى لا يفارقنى، و رجل يتعثر فى حاضره.

من أجل الآخرين، و ليس من أجلى، أحببت و تعلمت ما يريدون فى طفولتى، كى لا يقتلوننى أو يتركوننى على قارعة الطريق طفلاً يموت، بلا أب أو أم أو صديق. تشربت علومهم منذ الصغر و لم أختر منها شىء، فرسموا لى مستقبلى و عبثوا بمصيرى و سعادتى. و حين كبرت و عرفت، أدركت كم أنا وحيد، فهرعت لهؤلاء الذين أسقونى المعرفة كى يسعفنى منهم أحد. لكننى وجدتهم خائنين، خائفين و صامتين.

... أشكرك أبى على تلك السويعات التى قضيتها معك: قد كانت سعادتى الوحيدة الباقية، بعد أن ماتت داخلى كل رغبة فى الحياة. سعادة عابثة بلا ثمر، أحببتها و هى غير كاملة، فلم تكن سوى اجترار لآلامى من جديد و سرد لقصصى الموجعة، إخراج لسموم بداخلى كى أبصرها و تبصرها معى. كم من مرة بكيت هنا! رأتنى عيناك و تلك الجدران و لم يرنى سواكما. لكنى لن أقف لأصلى ثانية، ممضياً سنين طويلة تنهمر منى الدموع فيها، و صرخاتى فى داخلى تختنق، و ثمة من يشاهدنى و لا يتحرك... لا لن أتكلم مع الله، حتى يكلمنى هو. قد كرهت هذا الدهر و حياتى كلها، فدعنى الآن أخرج منها فى سلام، و إلى الأبد! لا، لن تمنعنى—لن يمنعنى أحد.

 

بلا وطن

أختنق فى هذا الوطن. أخاف أن أسطر العبارات، فأقذف الكلمات خلسةً. أحيا بين أناس إن يوماً رأوا أمامهم ما قد أفكر فيه، قيدوه و عذبوه و قتلوه. يهزأون بما أقول لأنى لست مثلهم، و يريدون النيل منى و أنا لم أؤذِ أحد: أحببت السلام لغيرى كما لنفسى، و طفت أدعو كل أحد، أطرق كل بيت، و أدعوهم لبيتى. وهبت كل ما عندى، ليروا كم هو صدق مشاعرى.

أختنق و القلم لا يسعفنى. أحترق، تذوب عناصرى فأرجع للطفولة: أتوقف هناك و لا أود الرجوع. أريد أن أمضى من حيث أتيت فليس لى هنا وطن؛ العدم أفضل من العمر و الموت أسهل من الحياة.

لا أعلم متى أو كيف ماتت كل مشاعرى، فقط ليبقى الألم: ذاك الذى حين يتملكنى، لا أشعر معه بشىء أو بأحد. رُفضتُ و لم أحتمل الرفض، لأنى لم أجد لقلبى قلباً ينصت لنبضه جيداً. أُهنت فتخاذلت عن مشاريعى و كسرت بيدى طموحى، لتذهب كل أمالى لنسيان. ما عدت أدرى من أو ما أحب، صرت كصخر أصم، يشاهده الآخرون و يتعجبون—و أنا أشاهد نفسى تموت، تتابع أنفاسى ببطء كأنما لشخص غيرى. أخشى أن أمضى هكذا سريعاً، دونما أرى أى من آمالى تحقق و أى من أناسى تغير.

كنت أظن أنى خُلقت للسعادة، أو فقط ليَعتصر منى الله شيئاً نافعاً ينتفع به غيرى. بحثت عن هذا الشىء فى داخلى و خارجى، فلو رأيته لكنت سعيد، حتى و إن ذهب لآخرين. لكن عصارتى كلها مرفوضة لا يشتريها أحد، و لا تشفى أحد. لم أر نفسى يوماً سوى مكرهة الآخرين و مريضاً يبتعدون عنه فى حذر. لعلى كما يظنون! إن أصدقهم سأعيش، فقط لأنتظر نهايتى، و سأحيا كمريض تنبعث منه للأبد رائحة المرض—إن هم تركونى كى أعيش، و لم تعذبنى السماء لتعتصر منى مزيداً من السموم.

مرت السنوات بسرعة، فصرت أنظر لطفولتى من بعيد مندهشاً كم كنت صغير. جئت الحياة و أنا أتلفت حولى متعجباً و مبتهجاً بكل ما أرى، يملؤنى حماس و شوق لكل جديد، و تحركنى براءة و ثقة أن سعادتى ستدوم للأبد... فبتُ أنتظر كل يوم مزيداً من المتع، وسط أصدقائى و أهلى و الطبيعة.

ثم جاء الصبا باندفاعه و خوفه، و قلقه و مرحه، كقارب يسير فى بحر مضطرب، حتى يصل الرشد و يستقر على اليابسة. يالكثرة أوهامى حينها، تلك التى بنيتها فى فضاء بعيد عن الأرض! كأن قد نما لى جناحان ظننتنى بهما سأطير أينما شئت، حين عرفت أنى حر و كبير و قادر على الاختيار. خذلتنى قدراتى و تفتحاتى، و تكسرت أحلامى بسرعة، فجلست ألملم أشلائى و أدفنها فى داخلى. ماتت رغبتى فى الحياة يومها...و للآن لم تعد؛ صرت كميت يموت، عاش ليبصر ساعته.

ستمضى الحياة سريعاً، و كل ما شاهدت فيها كان موت ينتظر آخر رحلتى. كانت بائدة و متقلبة: حيناً سريعة بلا سبب، و آخر رتيبة تمر أوقاتها فى بطء، كأنما ستتمخض عن شىء—و ما كان ذلك الشىء سوى فناء العمر و نفاذ الوقت. ها أنا أقترب من النهاية، فهل لى منها باعتذار، كلمة ختام تعترف فيها بعدم إسعادى و خداعى طوال الدهر؟ عبث أنتظر أن تجيب، فلا هى يوماً تأدبت أو عرفت الاعتذار: لم تفعل سوى بطش و عبث بمصير كل أحد، توجه الضربات بلا توقف، لوجه من تعرف و من لا تعرف.

 

شعاع أمل

لا أعرف شىء، و أشك فى كل شىء، حتى وجودى. أخاف التفكير لئلا أجن، و أخاف من الجهل أن يقتلنى، فأموت وسط الجهلاء. ألجأ للحب، لكنى أنسى دائماً الفرق بين ما أحب و ما اعتدت عليه. أؤمن بوجود حل، لا أراه بعد، فقط أعلم أنى مازلت حر و عندى إرادة تكفى لتغيير الكون حولى. أخاف من إرادتى و قراراتى خوفاً هو جزء منىّ و يلازمنى، و يحمينى بعض الوقت. يزداد مع الخوف ألمى و لا أقوى على منعه؛ لكنه حين يزيد يتملكنى—فأؤمن بشقائى من جديد و قدرٍ لا مفر منه.

و لكن ... بصيص من المتع فى لحظة من اللحظات، فى عمق الألم و غيابى عما أنا فيه، و نسيانى لما أعانيه من يأس هنا فى الأرض، يأتى ليداعبنى فأحب الحياة من جديد و لا أريد الموت. تمر السعادة أمامى كسرابٍ يظهر و يختفى، فأركض وراءه لأمسكه. أعرف الآن أنى قد نسيت أن المتع قد توجد بعض الوقت ثم تمضى، ما لم نقبض بها. لم أكن مدركاً لها أو بكامل يقظتى لكنى أراها الآن فى عقلى: خطاً لامعاً وسط ظلماته الواسعة، أجترها من حين لحين كى أؤمن بالسعادة و أدعو البشر لها.

كعصفور فى الأرض يرقص و يغنى، سعيد بما يرى من متع الجسد؛ كعابد يسير فى موكب الزاهدين، يبكى و يصلى، فى فرح الروح و العقل: هكذا أقضى يومى. و حين أعود لغرفتى و أبصر كم أنا وحيد، أخاف أول الأمر و أشعر برهبة من مشاعرى، لأن أحداً لا يرانى و لا يسمع صوتى أحد. لا يزعجنى هذا بل أنظر لداخلى و أسافر مع الفكر، أمارس نشوتى وسط الآخرين أو وحدى: فهذا واجبى و أحبه. حين تمضى سعادتى منى أسعد بإسعاد غيرى، و حين لا يريدنى أحد نفسى تريدنى، فإن لم أجد أحداً سأجد دائماً شيئاً أحبه. ككل البشر سأمضّى عمرى و أعيش لحظتنى قبلما تمضى؛ كلنا أخوة بالجسد و برابطة أخرى لا ترى: ننطلق و نضحك و نجرى، نتشارك معاً و نسابق الوقت و العمر و الدهر.

نسيت شكى و يأسى، حين فتحت عينى و نظرت للسماء. شعرت كم كنت صغيراً، غافلاً عن الحياة. ملأت صدرى بالهواء و قلبى بحب الوجود و رنمت مع باقى الكائنات: خرجتُ من سجنى حين طرحت كل أفكارى وراء. ما أعظم أن تحب، و لا تضع للقلب قيود ...

 

قيود

متى أصير حراً أتنقل بين القيود و لا أخاف منها، أغنى لها كل يوم، فأراها دائماً كصديق، نبراساً يضىء الطريق لا ثقلاً يشل حركتى! حينها أندفع للخير محباً لا مؤمناً. تحركنى الآن مبادئ و دروس، فمتى أتخلى عنها و أكتفى بالحب؟ و لما أعمل أو أشقى؟ فقط أريد المشاهدة و الاستمتاع بما أحب، فأكون دائماً مندهشاً. و هل هناك فى الوجود عمل أصعب من هذا؟

قد أصبح تمثالاً فى النهاية، فما يهمّ، هذا منتهاى و لا أريد سواه. ما أجملنى تحفة صنعها خالقى! يالغرورى، يا لزهوى؛ أعشق نفسى و لست مذنباً، أدخل قوقعتى و لست خائفاً! يا نفسى الجميلة، أحب كسلك و خمولك، حين هجرت أعمالك و تركت الله يعمل كل شىء. أفناك النور الباهر فصرت أكثر جمالاً، و تلاشيت فملأت كل الوجود. كنت أكذب حين كنت أحذرك، فقط كنت أجربك: اشربى و عربدى فالرقيب صار الطبيعة، و إله الطبيعة يحبك و قد فضلك. أحب كل الحب، و أعطيه لمن أحب، و لا أسأل منه الحب.

أى أحمق سيمنعنى، هل من شيطان سيخدعنى! ببساطة الوصية و عشق الخير، جعلته تحت قدمىّ، و رددت: "لا...لا أخاف الموت، أجحدك ايها الخوف!" كرهت من تعالى على الحب – و الله هو الحب. و الآن...بأى الأفكار سأعيش، و بأى قراءات سيتغذى عقلى؟ أحببت جهلى حين امتلأ القلب، و صرت حراً حين أحببت قيدى.

 

زمن قد فُقد

كانت الأيام تمر بسرعة فلم تدركها الذاكرة. حاولت ملء الساعات بعمل أحبه لأحصد منه ثمرة تبقى معى و تدوم، لكن بات بحثى عقيماً و جهودى المضنية بلا ثمر. أوقفت على الفور العمل و ألقيت بنفسى وسط المتع، لأنسى كل شىء و أعيش لحظتى؛ لكن خانتنى مشاعرى حين وجدتنى عاجزاً عن تذوق الأشياء التى يسعد بها الآخرون: كانت فى حلقى مرارة و على عقلى غطاء يحرمانهما مما أبيح لبقية الكائنات. فانتظرت، علّ غدى سيحمل لى ما لا أعرفه، أو قدرى سيأتينى بما لم تدركه يدى.

صارت الأيام سنين، فملأنى خوف و هزمتنى الشكوك. بحثت عن أرض ثابتة لتستقر عليها قدماى، لكن اهتزت الأرض بى و ماج الوجود حولى. فهربت إلى وحدتى، و انتظرت.

فى انتظار المجهول يعجز العقل عن التفكير، إذ تتصارعه ظنون و احتمالات كثيرة، أكثر مما يتسع، كلها قوية و متعادلة تتبارى فى ندية. لكن إذا عرفتُ ما سيكون، لرأيتُ وسط تصوراتى المتصارعة من يسود على الأخرين، فيتحول إلى حقيقة و يرى النور، بينما الضعيف منها يموت. فى ظل هذا النور تذهب من الذاكرة كل الصور الخافتة و المظلمة و الغامضة، تلك التى أنهكها الصراع على البقاء، فلم يبق منها سوى القوى. كل أمة تنقسم على ذاتها تخرب؛ فإذا تساوت الأولويات و تزاحمت فى بؤرة الضوء، تذهب المعانى و يفنى الوجود.

هذا الانتظار و تلك الأوقات، إذا سعى المرء لاسترجاعها، دائماً تعود خالية من أى شعور؛ تسكن عقله ثابتة بلا حراك، كأطفال موتى فى رحم، أو حقبة لم تذكرها الكتب. فإن جاء أحدهم ذات يوم محاولاً كتابة سيرته و استعادة أى ذكرى من ذلك الزمن، يتوقف لدقائق حائراً لا يجد الكلمات ثم ينصرف عنها لشىء أهم جدير بوقته، يملأ به حاضره و يُعدّ لمستقبله. هى أيام عبرت بلا تفسير، كانت أحداثها كحلمٍ عقيم بلا حدث أو صور، عاشه المرء فقط و هو نائم، و حين أفاق لم يجد ما يذكره: لحظات سجلتها الذاكرة بلا قلم أو ورق أو كلمات. وقفات فى قطار العمر عند مدن و بلاد تخلو بيوتها من الساكنين، لا يذهب إليها أو يأتى منها أحد. كل مسافرى القطار يجلسون، فقط لينظروا من خلال نوافذه نحو تلك المدن البائدة.

لم يغادر أبداً أىٌ من الركاب و ما أتاهم زائرٌ من تلك البقع. قائد القطار لم يره أحد قط ليسأله لما توقف هنا أو من يسكن فى تلك المدن، مَن مِن الأحياء فيها قرر تركها و من سيعود لها و يمضى حياته هناك. كان القدر الأحمق هو قائد القطار، ذاك الغبىّ الذى لا يتعلم من زمن أو يعرف أصول القيادة. تلك المحطات هى ذلك الصمت فى حياة كل أحد، انتظار من أجل شىء لن يحدث أبداً؛ هى كل طريق سلكناه و سرنا فيه بلا جهة، ساعين بلا هدف و فى كل اتجاه. تتقابل الأحداث عند مفترق تلك الطرق، تتراكم و تتصارع كأنما ستتمخض عن شىء...و حينها لا نسمع سوى ذاك السكون يأتى ليملأنا من جديد، و يحاصرنا كبحر بلا ماء.

كنت أعيش إحدى تلك الفترات، فلم أجد ما أفعله سوى التفكير: تطورت الفِكَر، تبلورت و تغيرت ثم اختفت، كلا شىء مثلما أتت. أية فائدة من قضاء العمر هكذا؟ لولا خوفى من عقاب السماء لأنهيت تلك الحياة فى الحال و أغلقت كتابا ما كان يجب أن أقرأه. لكننى رغم يأسى و حزنى اخترت البقاء؛ لم أرِد الموت. كانت تلك الغريزة الوحيدة داخلى التى جعلتنى أحب الحياة، فتشبثت بها كى لا أصير عدماً لا أعرفه. كان البقاء دائماً هو الفكرة الثابتة فى عقلى بعد أن مضت كل الفكَر. كل الصور و الأخيلة، الوجوه و أصحابها، كلها كانت تمضى و تجىء، بينما حبى للمواصلة ظل ثابتاً.

رغم سذاجة تلك الغريزة و عدم تغيرها أو تجددها، كانت وحدها من وهبنى إحساساً بالوجود و الموجودات، وحدها ذكرتنى بأنى ما زلت أملك خيارات، حتى و إن كان اختيار بين موتى و الحياة. ما زالت عندى حريتى، و إن سخرتها للخلاص من حياتى. كان الموت شبحاً، غريباً و بعيداً، أنتظره كل ساعة، تماما كشبح حياتى البعيدة التى تركتنى و انفصلت عنها منذ زمن، فبقيت هكذا معلقاً. صرت كمن لا جسد له، كروح حائرة، مؤرجحة بين وجود و عدم، لا ترتاح أبداً وسط الأحياء، أو تتوق لمجتمع الأموات. تلاشت روحى و جسدى و معاً، و أنا أشاهدهما صامتاً.

هل بعد كل هذا تدعوننى متخاذلاً، و تسمون اختيارى جبناً؟—ربما. لكن حياتى لم تتقدم، بل باتت ترجع للوراء يوماً بعد يوم. كنت أشتاق لأمسى و طفولتى لجدب حاضرى من المتع، و هول مستقبلٍ لا أعرفه ملىء باحتمالات. صار الوجود كله هوةً تدعونى لألقى بنفسى داخلها، مثل كثيرين قبلى فعلوا نفس الشى، بعدما وصلوا لنفس النتيجة، و اتخذوا نفس القرار. باتت الحياة طريق يسير فيه غرباء من كل البلاد، يدفعونك للسير وسطهم؛ فإن رفضت، قتلوك بلا تردد و لا تأخذهم بك شفقة. رفضنى الجميع و أذلنى، فصرت بلا أمل، و عملى و الواجبات أصبحت ثقيلة كعقاب، شقاء بلا ثواب، عقاب لخروجى من فردوس لم أبصره قط. سرت بين الأحياء كتلك الآلات التى نديرها و نفتخر بكفاءة عقولنا مثلها. صرت مثلهم: ماتت أحلامنا و القدرة على الحلم، قُطّعت أوصالنا وصل بعد وصل، عندما رذلنا العقل و الجسد و الرغبات، فباتت لا وظيفة لها. استشراف صورٍ بديلة لحياتنا أمسى محرّماً، و الحلم و الواقع أصبحا سواء: كلاهما جحيم نبنيه فى دأبٍ على الأرض. أدركت أنى على حق حين رأيت الوجود كله كلا شىء، و وجدت أنى مثله لا شىء، إن بقيت أو ذهبت.

أجلس الآن هنا لأكتب عن تلك الأوقات، و ذاك الزمن الذى فقد. أسجل ما شعرت به حينها و لا زال للآن يلاحقنى...يريدنى أن أقفز لعدم. لكننى لا أشعر معه بشىء لأصفه، بعد أن بات خوفى منه و رغبتى فيه سواء. فأتت كلماتى كلها جوفاء تغرق فى غموض، حروفاً لا ترى كتبت من أثير، كنفس صاحبها الهائمة.

مرت أعوامى كبخار، كما تقول الكتب، مضمحل لم يره أحد: صورةً لموت سميناها حياة، لفقر المفردات. إذاً لا داعى للمتابعة فاليأس يمنعنى و روحى تعجلنى بقتلها و لا أملك سوى أن أحبها، و أجيب نداءها.

 

 

Home

 

2013 © All Rights Reserved