شعر

 

الموت
الناس
العشق
الطبيعة
الخيال


1- الموت

الدور

روحى قد جاءت لتحكى    لكم هنا بعد موتى:
كيف رفضنى البشرْ    و كيف قطعوا رأسى
سأقصُ كيف انتهت    قصةُ حبى و يأسى
ستروَن و إن بدت    كطيفٍ عابرٍ محال
ما فعل القدر بى    قتلنى بلا سؤال
ما هذى سطورُ كتبْ    بل هى روحى تنسكبْ
سأحكى كيف سُجنتُ    و جلدتُ و ذبحتُ
وسْط الناسْ
كانت السماءُ تهوى    على صدرى مثلَ صخرِ
و كنتُ أرفعُ السماءْ
هل كانت و كنت و كانْ؟    و فيمَ يفيدُ الكلام؟
و لما أحكى أو أبكى    و لا أراكم تنصتون
أو لأوجاعى تشفقون؟

معركتى مشكلتى مسرحُ صرخاتى
و مشاهدٌ واحدٌ يجلسُ
فى كراسٍ بلا ناسْ!
سأصرخْ
و إن بَحّ صوتى سأبكى. سأيأسْ
و إن ذهب عقلى سأنسى، و أحلَمْ
أنى جئتُ
لعِبت دَورى و مَشَيتُ.

 

أرواح طيبة

على شاطئ الوجود نظرت
أفكر فى نفسى و الأحياء،
يواجهنى بحر، تدنو أمواجه منى:
بأذرعٍ سوداء، تريد أن تجذبَنى.
فابتعدت خائفاً، مهرولاً، و نظرت للسماء
أستنجد بنجومها منه.
عدوت بلا توقف، فوق التلال
حتى صار البحر شريطاً أسود؛
و جلست على الكثبان، ألتقط الأنفاس ...
حتى هدأت نفسى.

فضاء شاسع امتد أمامى
و بعض كائنات الليل من بعيد يئن
و البعض كان يشاركنى سكونى.
شعرت و أنا وحدى كأنّى ... ملكاً على البادية،
سيداً بلا سلطان.
رفعت عينى لأجد النجوم بعد تبتسم، و تدعونى
أن نسبح فى ليل، و كون بلا نهاية،
لنرى مِن هناك السماء و الأرض.
رددت الابتسام ... و معها سافرت!

رأيتُ أهلى و من أُحب:
بعيدين ... و قد غابوا كدخان، لا يبصره غيرى.
ثم سمعت صوتاً، تراتيل خافتة:
أجراسٌ من بعيد تنادى، تعلن موت إنسان.
و امتلأ الفضاء ... برائحة بخور، تخترق أنفاسى؛
جاءت من بلاد، تركتها منذ زمانْ، صارت غريبة عنى.
رأيت كهنة يبخرون، يستعدون للصلاة، و أمامهم جثمان
وجهه مثل وجهى.

أشباح من الماضى أتت،
صارت تهبط و تسير، أينما تريد،
حتى ملأت الأفق ... و الشاطئ البعيد: تريد أن تأخذنى.
هل كنت أهذى، أم دنت ساعتى؟
لا ... لا أريد موتى!
تخيفنى الملائكة، و أطياف من ماتوا ... و لو كانوا طيبين.
أتلفت بجانبى فأرى
كل الأرواح الطيبة، هنا لتزورنى.
لا ... لن أرحب بها، حتى يزول شقائى
و ترسل لى السماء ... عوناً من عندها:
لأعيش أولاً—ثم أمضى.
حينئذ أرنّم، و قد أحتفى
بكل من مضوا: و أسافر معهم، لخلودٍ أو لعدم.

 

لا شىء

نزعوا قلبى، بعدما كسروا ضلوعى؛
و أضرموا ناراً فى صدرى، لتترك رماداً و أشلاءْ
روحٍ باقيةٍ لكيانْ،
وجهٍ لإنسان، كان هنا
تبصرهُ العيونُ مشفقةْ، بعد أن جعلوهُ محرقةْ! مات الآن—أُعلنت.

انتهى الآن و مضى، ذهب الوجود سُدى،
وهماً عاش فيه، العدم كان فيه، كلُ ما فيه—
لم يكن سواهْ، لن يبقى سواهْ.
ما كانت عواطفى، عواطفُك، جوارحى،
أفراحُك، مذابحى،
إلا حلماً تولّى، على العدم رسمناهْ، فى الوجودِ رأيناهْ.

ما أولُك و أولى،
إلا فضاءٌ أحب انتهاءهُ،
نائمٌ أفاق على نومهِ،
حلمٌ تراءى لنفسهِ—
و أسِف على تحقيقهِ.

يا كونى، يا دنياىْ، يا صرخةْ وجودى!
لم أكن أصرخ،
لم أتحقق ماضىَّ،
لم أعرف حاضرى،
على مشارف مستقبلى أخذونى.
لم أتحقق إلا من كونى:
جئت كى لا أبقى،
ولدت بعدما مت.

 

زمن!

الزمن الأسود نحياهْ
ما يوافق هوانا هواهْ
ثائرٌ أحمقٌ مغرورْ
تركله حين تراهْ.
ما نرى فيه سوى عدمْ:
شرٌ و مكرٌ و سمومْ
من فمٍ كريهٍ تسيلْ،
و وجهٌ ... القبح كل ما فيه
كوجه عزرائيل، أو موتى فى تابوت
أصابهم العفنْ
فصارت أسنانهم ... بلا داع تبتسمْ.
جيفٌ ... تستتر تحت الكفنْ
كمثل الأحياء، تعيش فى خداع: الكل يبتسمْ!
موت يلبس قناع ... اسمه الحياة.

 

فى رثائى ...

الغناءُ مكروهٌ زمانَ النوحِ    و لكنى سأغنى مصائبى
أيامى تمرّ و الحزن يُفنينى    و ما أراه خلال متاعبى
أحباباً قد ماتوا، صورةَ أشلاءِ    جسدى تطل من قبر مرعب
أهوى على الأرض الآن، لما تبكى    أمى أراها، و أين اختفى أبى؟
دائرة الشر تضيق، و الناسُ    كشياطينِ تدينُ مثالبى
من أنتظر يوم المحاكمة،      هل تشفق الغوغاء بمذنب؟
"اذهب للجحيم": صوتاً سمعته    وقت خطيئتى الأولى مجربِ
إذ بكهنةٍ وملائكةٍ    تحذرنى من شيطانٍ بجانبى
علمنى الشك و الشعر و العشق      و قلت لنفسى لا لن تحاسبى
مؤلمٌ عشقى، مرةٌ كأسى، إلا    أنت يا كتب الحق لم تكذبى
سرت خلف ضيائك، و جهرت    بالصدق وحدى فى زمن كاذب
حتى لفظنى البشر بعيداً    لنهايتى، بين أمى و أبى!

 

غثيان

أشمُ رائحة الدماءْ، أقىءُ تراباً من فمى، و تجرحُ أرجلى الأشواكْ.
أصطدمُ بأغبياءْ ... فى الطريقْ، و تهدر فوقى السماءْ ... متوعدة، مهددة.
فوجدتنى محاصراً بتعاسةٍ—
أحببتها، لاطفتها كى لا أموتْ!
غنيت و بشرت، بالموت و البطولة و البعث العظيم،
و أنا داخلى يحترق، فحاضرى مات
و اللحظاتْ—ثقيلةْ كالجبالْ، و التعزيات فاشلة، قاتلة؛
كل أفراحى حرمت،
كل عقائدى خاملة، لا ترضينى، تفنينى!

سأموتُ هادئاً كناسكٍ، حولىَ وحوشٌ و ملائكةْ؛
مددتُ يدِى للموتْ، ليضعنى مع الساكنينْ ... فى الجحيمْ.
استجب لى كل حين، حين أطلبُكْ. آمين.

 

المقابر

صمتُ المقابرِ يملؤنى    وقعُ خطواتى يسابق
أنفاس الأموات من حولى    صدى أنّات الراحلين
و نشيج جموع المعزّين      و أنا خلفهم أسير
نحو نهايتى ككل حى      مهما أطال فى الأرض
كان عصفور فوقنا يطير    فى سماء النور يغنى
رغماً عنى شعرت     خوفاً و مرارة فى حلقى
كطفل تائه عن بيته     تعمينى دموعى و يأسى
أبكى، أصلّى، لسماء خرساء     فأعانى عدماً مخيفاً
كأنى من صدفٍ وجدتُ    كلُ ما أمسكُ يتلاشى
منْ أكونْ؟ ربما لستُ موجودْ.
الكونُ بلا نظامٍ، تسيرْ    الحياةُ تائهة، فأقولْ
لنفسى، عابثاً: سِيرِى بلا حسابْ        ليس آخرةْ أو ربِّ أو عقابْ
اعبدى الحبَ فَهْو    أقوى اللذاتْ
اسكَرى دائماً و لا       تُفيقى، إلا ... على ... موتى!
الكلُ فى عزلتهِ وحيدْ         مهما أحبَ أو عاشَ، وحيدْ.
فى الكونِ صرخاتٌ كثيرةْ       و أنا صرخةْ، واهنةْ، تموتْ.
أشتَهى الحياةْ، لكنى أموتْ      و أقاومُ الموتَ، فأموتْ.
ها هو مصيرى و منتهى    كلِ حىٍ فى الأرضِ ههنا
سيظل الموتُ سلطاناً      على الزمانِ إلى النهايةْ
تعالَ أيها الموتُ! أنتَ سيدى و أنا عبدُكَ،
لم أرَ سيداً غيرَك هنا.
و أنتِ يا أيتها النارُ    أفنينى! لن أكرهَكِ بعدْ.

 

الراعى

هذه النهايةُ يا قطيعى! أحببتك للنهاية و انتهيتُ!
أحبّت نفسى نفسَكَ، فكسرتُ بحبسى أسرَكَ.
أردت خلاصَك و متُّ، لأجلكَ.

تمزقتُ أشلاءً و اختفيتُ؛
جعلت الحب غايةً، و ما أصبتُ؛
أحببتك بجنونٍ، أخذ رأسى، فصار معك رمسى.

أشواقٌ بلا عقلٍ أصابتنى، ملأت جسدى بثورْ، فابتعد عنى قومى.
لقلبى أسلمتُ أمرى، أبحث عن شفاءْ—بلا فائدةْ.
صرت أشدَ سقماً، تغيرتْ ملامحى و تحلَّلَتْ؛
وفى جحيم الفن ابتغيتُ طهراً
ملأنى وهماً و ظنون: أصاب الخلل نفسى.

علاقاتٌ مشبوبةٌ تحرقنى
و مجتمعاتُ الأصدقاء، الجرحى مثلى، أشدُ سوءاً منى.
قدرٌ صار يطاردنى، أركض منه يائسا:
عبث منى تصور ... غيرَ الجحيم نهايةْ.

 

2 - الناس

فى الزحام

أسيرُ فى الزحامْ، أرفعُ عينىَّ، و أتأملُ ... البشرْ.
تعلونى النظرات، و الهاماتْ،
بين مشفقٍ بى، و مرتابْ.
و أنا فى ترقبْ، أسجلُ فى الذاكرةْ ... كلَ وجوه البشرْ؛
لتَخرجَ فى فنّى، تُخرجُ من عينيها ... شررْ
أو خوفاً أو عطفاً—لم أفهم البشرْ.
خلفَ النظراتِ قصةْ، تملأُ الأجسادَ رغبةْ،
تعذبهُ و تَصرعهْ، تعيشُ بلا مأوى، تُسلِمهُ للقدرْ.
هم مثلى قد تاهوا ... تحت عين القدرْ.
ياللبشر!
من ينقذنُى منهم، و أنا الغريبُ عنهم—لفظوا من ليس منهم؟
لولا ذكائى وإطرائى
ما كنت الآن هنا، بينكم.
فأين لى بأرضِ أعيشُ بها وحدى؛
يسير الوجود مع خطوى، أرسمه بقلمى؟
أما هنا فلا أدرى، لما ...
أجدادُنا قد جاءوا، و تكاثروا،
بَنَوا مساكنَ و مدافنَ و سجونْ،
داسوا العقلَ و رفعوا الجنونْ،
عبدوا الموتى،
قدسوا المجهول!
نداءاتى غير المسموعة ... تحاولْ
و محاولاتى ... تحب الفشل.
لا أريده بلْ ... أقبض بالأمل.
كل الوجود و الأسئلةْ
كحلمٍ—بلا تفسير، خيالاتٌ عابرة:
لم ترضننى التفاسير.
أنهار بكائى غَرِقتُ ... فيها وحدى و لم ينقذنى أحد.
حبال رجائى التفت حول عنقى
فصرت بلا رجاءْ ... و سقطت فى الماءْ!
ما بقِىَ منّى سوى نَفَسْ! الآنَ سيتوقفْ
و تعودُ كلُ الحقائقْ
كما كانت و تكونْ—لسكونْ
وهدوءْ
كأصلِ هذا الوجودْ.
ها قد جاءت نهايتى!
سأرقد فى نعشى—و أنامُ للأبدِ.
لن أسمعَ بكاءَ النائحينْ،
لن أرى أو أسمع سواك يا موتُ.
كل كلمات التعزية—و التأبينْ،
كل المعانى العابثة—و اليائسة،
الحب و الدنيا و الناس،
طفولتى و عجزى و موتى ...
أتَوا ليشاهدوا فنائى! الصدقُ كان دائى—فمتُّ.

 

غريب

هو منْ يعبثُ بهِ صغارُ الدهرْ،
تُقرِّعهُ و تُفزِعهُ إن يمرْ.
فيفرّْ ... كفأرٍ مذعورٍ لِجُحرْ
أو قَبرْ – فلا يهُمْ.

كل من أحبَ ثارَ عليهِ الآنْ.
فقد صارَ يلعنُ الناسَ فى نفورْ
و يمشى كمشدوهٍ مطرودٍ مكلومْ
كالمجنونِ الذى سحِقتهُ الظنونْ:

فى هوةِ الوهمِ تلقيهْ
و من بئرِ الهمِ تسقيهْ،
تنسيهُ الهمومُ هواهْ.
قد هَوَى الآنَ فى ظلمةْ
و ها هو الآن قد تاهْ،
بئسُ الخاتمةِ يدعوهْ.

"هوِيتُ و الهوى منعوه"—
ومن فى الشكوى يدعوهْ؟
صرعوهُ من تلوى أو تأوهْ
أو فاهْ،
ذبحوهُ فى منفاهْ، لئلا
يهوَى ... ما يهوونْ.

يهوِى الآنَ بلا قوةْ،
مجهولاً من ذويهْ،
فى عدمٍ كان مثواهْ.

 

صديق

صديقى الوحيد، استمع إلىّ اليومْ!
انظر أكواب الدموعْ،
أعصابى المرتعشةْ،
أكوامَ الورقِ المنكمشةْ!
أخاديدٌ على وجهى ... و صدرى!
انظر مشاعرى كيف تجرى،
أوقفنى، هدّئ من روعى—
لا أعلم لما أتمزقْ!
أتعلمْ؟
تكلمْ—الآنَ!
و تمهلْ ... سأصدقْ.

 

ياسمين

ياسَمينُ الجميلةْ
ماتت منذ دقائقْ.
كانت واقفةْ هنا:
أخذها شيخٌ وقور،
ذو ذقنٍ بيضاءْ و ثيابٍ لامعة ثمينة—
كرجل دين، أو أحد الوجهاء.
احتضنته، و احتضنها، و طارا معاً فوق القفار.
ترى، لن يعودا؟
أو تعودْ وحيدة،
و نلعبْ معها
كما كنا صغارْ؟

 

على الطريق ...

لما لا أسير هائماً فى الطرقات
أردد شعاراتى بلا خوف
و ألقى مواعظ فى آذان الهواء!
يسمعها العامة و يمضون فى طريقهم، لا تهتم.
تبصرنى السماء، و لا أراها ... تبعث لى ... ناراً أو هلاك:
فما أنا إلا ... نقطة صغيرة، بالكاد أن ... تُرى من هناك.
تقابلنى الشرطة، و تضحك – تعرف أنى أليف:
لست سوى جرو، يسير على الطريق؛
نسيته أمه، حين خرج للحياة، فبات يصارع ... كى لا يموت؛
و إن شعر بتعب، فوق الأرصفة يستريح—
هناك يعيش ... هناك يموت.
سينتهى الحال بنا، مثله كلنا (مثل ذلك الكلب)
جالسين أو راقدين، حين تفارقنا الحياة،
مع غرباء السبيل، و كائنات الطريق:
بشر أو حيوان، الكل سواء ... على نفس الدرب.
ستُنسى الكلمات و يَسكت كل فم.
لذا ... أقول كل شىء، قبلما يمضى العمر.
لن يلتفت لى أحد، فأحد لا يهتم.
ممن أخاف، و الخوف لن يفيد:
جئت وحيد، مت وحيد!
لما الهم، و أنا لست شىء ... لأحد!

 

نظرات

أستاء من نظرات الغير لى، و وحدى أعرف لما النظرات!
كسهام يرسلونها تخترق صدرى، فتَسُمنى أو تُشِلنى—و لا أقوى على ردها.
يدعوننى بالبائس، و هم بؤساء!
هم قوم أنصاف سعداء، أنصاف أشقياء؛ و أغبياء، لا يعلمون:
يحبون أن يروا كل أحد ... كامل السعادة أو الشقاء،
و يعطون الأدوار هكذا، لكل أحد، بلا سبب.
فإن أتاهم يوم ... ذاك الذى صنفوه،
يشكو ما لا يعرفون، تراهم فى خجل
من جمودهم و من عجزهم، و أكثر ما يخشون ... كشف جهلهم.
لذا تراهم، فجأة ثائرين، خجلى هاربين، من ذواتهم—
و فى ثورتهم يظلمون أبرياء: يرمونهم، كما يرمونى، بنظرة استياء.

فأحتار فى الأمر مراراً، و أفكر فى هؤلاء؛
أسير مع أفكارى، من الصبح إلى الليل،
أناجى الطبيعة، و أسأل الغرباء؛
و حين أضع رأسى لأنام على الفراش ...
أحزن، و لا أمنع نفسى ... من البكاء:
لأنى أعرف أنها ... تتألم وحيدة،
عاشت دائماً، تخاطب آخرين، لم تتصل بهم؛
أحبت، و أحبت أن تُحَب، من الغير؛
ماتت و لم تعرف ما هو الخير.

 

زفرات

زفراتٌ حارقةْ
تقذف حمماً على وجهى،
مرارةٌ فى فمى، من آخَر
أدفن فيه شوقى؛ و شوقى
أن أُخفىَ نفسَهُ و نفسى.
و ليت زمانى غافلٌ فينسانى
أنا و من معى و الناس سواءْ.
أىَ عشق نختار، و هل يُختار القدر؟
كشبحٍ الناس ترهبه، تهرب و لا تعرفه
من درب لم ترسمه، و ماضٍ خلف العقلِ
لن ندركَهُ فنغيرَه.

فأىُّ قسوةٍ تلكَ، ملأتهم و سحقتنى!
أظلَمت العقل فقتلوا
بنيهم، و ذويهم، و كل من
ذاقَ ... ما تمنوه و فشلوا!
تكالبوا كالذئب على حمل
نقىِّ الفطرة و القلبِ.
فلما الشر هكذا:
يهزم الخير و ينتصرُ،
دوماً ضدُه و ضدى،
يكرهنى بلا سببِ!

معركتى ضد البشر و الشر و القدر،
و أنا مسكينٌ ضدُ عقلى:
أبنى عقلاً جديدا لعقلى.
فيكونُ الصراعُ داخلى،
إن أقمتُ وسْطهم أو وحدى.
وحدتى!
يا لذتى و يأسى و موتى،
و أنتِ
منزلى و هيكلى و قبرى،
واحةَ نورى خلفَ الشكوكِ،
غرَقَ دموعى فى دموعى!
و الآنَ:
أحوالى تبكى و
أعضائى تفنى و
لما تعيشُ
ملامحى، و لا تختفى؟

 

طريق الخلاص

لما أهنتُ الحسَ، لما رفعتُ الروحَ!
لن تمطرَ السماءُ
مهما سجدتُ مطرا:
قد نَسِيَتنى السماءْ.
أغرَقُ ... فى تمتماتٍ و صلواتْ؛
أسجدُ، تكسّرنى السجداتْ؛
أبكى، و لا يسمعُنى ... سوى ... رجع الأنّاتْ؛
أناجى الأمواتَ، أصرخُ ... ترتد الصرخاتْ؛
أقتل السنواتْ، أمضّى العمر فى عبوسْ: أختنقُ من الطقوسْ.

عبث الحياة أنها—عاهرةْ ... لا تحبْ
سوى الموت: تضمه لصدرها، آخرَ كلِ يومْ.
فلا تنظرْ لرأسها، أو تعبأ برأيها—و لا تحبْ من غيرك أحب!
سر معى الآنَ، و لن تَضِلّ:
ما أسهل تَبَعَ الحواسْ، ما أيسرَ طريقَ الخلاصْ!
فلتكن للقلب إرادةْ
تكشفُ النورَ لعقلنا ...
لن تهبَ الحياةُ سعادة،
فسعادتى بيدِى—أنا.

 

قبل النهاية

جبين تلوَّن بنور الشمس حتى احترق،
تراب أرض و لهب نار على وجه
اجتمعا فيه، معاً
ارتسم فرح و ألم.
حزن غطاه، و تشابكت، فيه، خطوط الزمن:
تعاركت فى شراسة.
أيامه الباقية ... تمر على مهل
و سنونه الماضية تعاقبت
أمامه، كشريط ذكريات
حفرت أحداثه بقلم
فوق ذاك السطح
قصة إنسان على وجهٍ، ذاق طعم الشبع؛
صارت الحياة تأخذ منه الأعوام لتكمل الرسم:
ها هى اليوم تكتمل، أتراها، دقق النظر!
هالة حول وجهه،
خطوط غائرة، مسافرة، فى عمق الماضى شقوق.
أقترب حاملاً فى يدى ... مصباحى و عدسة مكبرة
لأدقق فيها جيداً،
فأعرف من كل منها قصته.
تقابلت اليوم كلها، معاً، آتية من أماكن و أزمنة
كى تصنع لوحة تدارجت ألوانها
فملأت وجهه بعظامه البارزة، و ملامحه الساخرة،
و فم وسطَه مملوء حياة، لمن أرادها:
تومض الشفاه، كسراج ... لمن يراه،
و تلمع الأسنان ككوكب منير،
كتلة وقار تحيط وجهه،
هو و كثيرين مثله
بعدما مضى العمر.
شيخ كبير، حكيم علمته السنوات، مرت عليه
لتعطى النظرات ثبات، و بريق لؤلؤتين هما
الوحيدتين الآن
فى بحر العبرات.

 

3- العشق

ثوب أسود

شعرٌ أسودٌ هفهافْ، و وشاحْ
لامعٌ شفافْ، أعدو خلفهما ... لاهثاً،
كجروٍ قفز إلى البلوغْ:
بلغت أعوامه الحلمَ، فهرب من صاحبهْ،
كاسراً أسره و القيودْ.
ثوب فضفاض أسمر
أصابنى بلوثة، و تهتُ
بين ثناياه، أختفى.
وسط ظلاله الكثيفة
ألتمس ملجأى، فى موج ليل غرقت فيه،
لأجد قمراً يضىء
يسبقه نجوم و سحاب؛
أقترب لأرى: فإذا سهولٌ و وديان ... و أخاديد
كتلك التى بالأرض.
أعرف أنك لست إنسان،
و لستَ أحد الملائكة—كما يقولون—
بل الشيطان يجلس أمامى ... على عرش الساقطين
مباعداً بين رجليه و بينهما صولجان
و يدعونى لأقترب.
أعرف لغة الشياطين ... و الجان،
فكم عشت معهم!
أرهب ذاك السواد،
أهاب تلك القتامة ... و الغيم،
أفزع من صورة طالما اشتقت لها، و وأردت امتلاكها—
ويلى إن صدقتها ... و تبعتها!
أختنق من السير ... ضد طبيعتى
المُحبة الوديعة: بيدى أقتل براءتى.
ما أجمل إنسانى القديم، و روحى وسط الطبيعة
فى جسد طفلٍ صغير، تنهل من الطفولة!
ما أسعده حين كان ... يرقد مريضاً؛
يقرأ كتاباً عن ... جنىّ و غولة
على العشب يتصارعان:
ينشب أسنانه فى ثوبها الأسود ... فتخنقه بالوشاح.

 

سهم من الخلف ...

سحر أفاض على ظهرٍ
تهادى لناظرىْ فى تدللْ
و سار، يموج أمامى فى كسلْ.
رداؤه قد تدلى ... إلى الأرضْ،
فامتزج بطمى و مطر،
و أظهر خطوط الجسد.
شعره قد تبلل،
و صدره كان يلتهب
تحت كرة الشمس
بنورٍ و نارِ معاً –
خفت أن تدنو منى.
مضى صاحبهما للنهر
فجلست فى سكون
أنظر من بعيد.
رأيته يغير الرداء
و هم أن يستحم
و أنا كالمجنون
قلبى سيقفز منى.
طالتنى نيرانه، فصرت كالمحموم،
و سهام تخرج منه
يرسلها لتخدرنى.
لم أستطع الانتظار
فقمت على الفور
كى أطفئ النار:
خلعت الثياب و اندفعت إلى النهر ...

 

حوار - 1

هى:
ينظر إلىّ ... بعينٍ ضاحكة،
ساخرة.
يزمّ شفاه الماكرة، تحت شاربه،
فتلتمع أسنانٌ بيضاء، وراءها ظلام لا أعرفه؛
و تملأ الدماء وجنته الشبقة الحمراء،
كمن أنهى وليمته، مبتلعا فريسته،
فى نهاية يوم ... من صيد و عناء.
ما معنى الابتسام؟ – ليته سعيداً.
يُذلنى كثيراً – يحتاجنى لأضحكه:
سأضحكه
على البشر و الموت و الطبيعة.
مسكين! سينهى سعادته
فتكمُل بهجتى،
يوم أراه، بين يدىّ ... يموت.

هو:
مسكينة، يائسة!
من يصدقها، أو سيتبعها؟
سيتبع جسداً، و يتركه و يتركها
لغيرى ... كما كان لى.
ستضل هى، مع الآخرين
و أكمل أنا سيرى—مع من أحب،
و هى ... مع من تكره:
تقتلهم ببطء، و أقتلهن بسرعة.
كلانا سيهلك ... و لو بعد حين،
هى مع من تحب، و أنا مع كثيرين –
لأنى لم أحب،
و لا هى يوماً
"عرفت" ما تريد.

 

حوار - 2

هى:
أنفاسه المسرعة تسابق أنفاسى،
و قلبه الصادق ينبضُ، أسمعه،
آهات حارقة تخرج من صدره،
و دفؤه يسرى بداخلى:
أشعثْ، جميلٌ وجه صاحبه، بلا نتوء أو عيبْ؛
حبه واضح بلا التواءْ، صريحٌ و قوىٌ و جرىءْ؛
جهده غير عقيمْ: قوة تعنى قوة، يهب الحب حين يحبْ.
و أوهامى تتبدد تائهة، داخل قبضة يده الكبيرة، المشعرةْ.
معى الآن فى اللحظة، يمسح دموعى بفمه،
يرطب عن صدرى بقبلاته، يدفعنى لجنون، بخفقاته؛
و آهاته...تذوب فى تنهداتى، و إيلامى منه نشوتى:
لو يستمر إلى الأبد...فى صداقتى و حمايتى!

هو:
يا لوعتى...و انحدارى...طريقى إلى الجحيمْ!
ما لك تبتلعين كيانى
و تلتفين حول عنقى كشيطانِ...أحبكِ و أكرههْ،
تضرمين النار فى نبع قوتى – تراه سيفنى أم يزيدْ؟
و أنت تنهلّينْ، و لا تشبعينْ
و أنا المعطاء المسكينُ...أنقصُ و أنت تزيدينْ.
أعشقُ سحقكِ، قبلما عمرى تسحقينْ؛
فأتركك كدميةٍ...بلا روحْ،
كحجارةٍ ملقاةْ...على طريق الساقطينْ.

 

إغراء

ساحرةُ السماءِ خدعتْكْ
و ضحكت عندما بكيتْ—
أتصدق شياطينَ المرحْ؟
انظر! من حضرْ؟ هى—
ارقص فى فرح!
يخفقُ قلبى بالألمْ
كلما ذقتُ الحبْ،
أتأوهُ بسعادة.
ضحِكت عليك كذابة!

ترفقْ
بجسدى الآنَ ، و فؤادى!
تأنى ...
أمهلنى ساعةَ عشقْ، و ذقْ
آهاتى تسعدُك، أنّاتى تطربُكْ؛
و أضرم النارَ، فى كل أكاذيب الزهدْ
و بساتين النسكْ!
افرح كى لا تعودْ
تنادى الزمنَ ... كى يعودَ.

 

كم ذقت الحب!

كم ذقتُ الحب و لم يَشفِنى    فدفنت شوقى مع الفانى
و ذرفت دمعى لغائبٍ    أعبده و هُو إنسانى

عشقت مخلوقى الذى    غنيته و ازدرانى
و عشت أمسى كحاضرى    فسئمت كل الزمان

جميلةٌ لحظتى و عنيفةٌ    إن هى جاءتنى يوماً بنسيان
كنفحة مستقبلٍ أسرنى    جعلنى أستعر بنيران
إن أملك الدهر سوف أملؤه    متعاً، بقوةِ تلك الثوانى
شهواتٌ حارقةٌ أقبضها    فى ذروتها، لتبقى ببستانى
جنة الإلهِ الثائرِ بيدى    ذاك الذى يخلقنا لنعانى
إن أحببت مرةً، أحب موتى    هو، أرسل إلىّ بشيطان

القداسة و الحب و الأنوارُ    غابت و ظلت أحزانى
الطبيعة و الجو و الأطيارُ    بكت معى لحرمانى

فيا خالقى أحببت  -  هل تحاسبُ وجدانى؟

 

4- الطبيعة

فى الصباح

جاءت العصافيرْ
لتلعبَ معَكْ، و تساعدَكْ.
ها قد كبُرتَ الآنْ، انظر!
جناحُك الجميل، و الألوانْ.
حان درسُ الطيرانْ، اتبعنى! سأعلمُك، اسمعنى!
هذا صوتى و لونى ... و
هذى النغمةْ تعنى: أحبُك، أفهمُك.

مع العصافير انطلق، إن رأيت النور غنى، و إن تعثرت غني!
ستحملك الريحْ، إلى بلادٍ و شجرْ، و سترى البشرْ.
اذهب يا صغيرى الآن ... و اذكرنى!
قلبى لك يُفيضْ
أمانٍ كالمطرْ. روحى لك تريدْ
أروع المستقبلْ، يحنو عليكَ و ... لا يغدرْ.
و شوقٌ يعترينى لرؤياكَ ... ملكاً، على عرشِ السنينْ؛
و خوفى مِن عِداكَ
أن يبعدوك ... عنى لأنساكَ:
لا! مَن عَداكَ عندى لا يُذكرونْ.

قصيرةٌ الحياةْ، لا تدومْ!
فلا تدع الآنْ
لمن قاتلوك وهماً
عليك سجلوهْ!
ستغزو الأحزانَ و تقهرُ الأنينَ و تعيشْ
أروع العمرِ، أبهى سنينْ.
تقدم بلا تردد، تحدَّ و انفض الغبار!
اليومُ يومُ نهار، تهاوى أفقُه تحت قدميكْ،
و نجومُ ليلِهِ انتظرتْ ... أمرَ شفتيكْ.

 

الشجرة

ينظر أمامه لبستان، فيرى شجرة
تحتها كان عاشقان، غائبان؛
و أخرى حولها يركض طفلان، صغيران؛
و ثالثة فى ظلها ينام
رجلٌ كهل، من الشمس يهرب.
أشجارٌ كثيفة ملأت المكان،
امتدت إلى الأفق ... ثم اختفت:
أرض شاسعة، فاضت بحياة، و اكتست بأوراق
جميلة، يانعة، خضراء.
تدافقت جموعٌ من كل صوب،
تسير و تجلس بين التلال ...
و هو من بعيد، كان يشاهدهم!
مرت ساعات، و اقترب الغروب، حتى رأى ... الكل تفرق:
أطفال و رجال و نساء.
مضى كل زائر عائداً، من حيث جاء
ليبقى هو فقط، ساكنا، أسفل تلك الشجرة،
التى كانت أغصانها مثله ساكنة.

كانت أفكارٌ تأخذه، و خيالات كثيرة ...
فيبقى، بجسده فقط، تحتها ثابتاً:
فى رباطٍ قدسىّ، بين الطبيعة و الإنسان.
نسى أمرها، و أمر الزمان؛
و تبادلته مشاعر و رؤى، أقوى منه –
ناظراً وراء الطبيعة ...
للطبيعة كبرياؤها، و حضورها! لكنه هجرها،
لم يبادلها الحب، حين اقتربت منه؛
و سافر بعقله، لآفاق بعيدة، و مدن لا تراها عين.
صار يعيش هناك، بينها وحيداً، و لا يراه أحد.
حتى وسط الآخرين، ظل وحده:
إذ أن عقولهم البسيطة، الغير حائرة مثله
امتزجت بالطبيعة، فصارت ترى
الجمال و النور ... بسهولة، لا تفكّر؛ إنما—
تسبّح، و تشكر من أوجدهما.

أما هو فقد عاش "الحاضر الغائب دائماً"
و ظل للأبد تائها، فى أسفاره و فى وحدته،
ساخطاً على الكون و الحياة:
لم يقنع فيهما بشىء، فجلس ينتظر نهايته.
لم يرضَ بالفتات، فقتلته الحكمة—التى بها اقتات.
ليته أحسَّ أو أحبَّ أو كرِهْ ... قبلما أتت ساعته!
كان جمودُه كصخرة، لم تنكسر لتموت، و لم تعرف الحياة؛
كبذرةٍ بلا ماء، تشتهى الموت، لأنها لم تر سواه.
جاء و مات و دُفن ... فى الأرض، تحت نفس الشجرة:
لم يذق من ثمارها شىء، حين دنت أغصانها منه.

 

عند الغروب ...

سافر طائر الحب مع آخر شعاعٍ للشمس
و دقت نواقيس السماء تعلن بدء الليل.
صرخةٌ فى الأفق:
الملائكة تأمر البشر بالنوم، و لا أحد يجيب.
أوجاع فى القلب تثور: على السماء تثور.

 

أنا و الليل

صمت الليل أسمعهُ
أنا الساهر وحدى، هنا؛
وسط أنفاس النائمينْ،
لا يسعد به غيرى، أنا.
ينفذ لقلبى سكونه، فيملؤنى سلامْ؛
و تمر بعقلى صورٌ، قد نسيها الزمانْ:
إذ بها تعودْ، نتسامر و نأتنسُ، أنا و الليل و الصورُ.
و نسماتٌ باردةٌ تداعبنى،
تغمرنى بعطر زهورْ؛
حفيف أشجارٍ و بومٌ يصلى ...
أشتاق لقريتى و الطفولة، و بنى الريف الطيبين؛
أناسٌ و أعوامٌ قد مرت، صلات روحٍ انقطعت.
و الآنَ ... طبقاتٌ من الدهر بيننا تحولْ،
فلا أسمع سوى
صخب الحاضر كغولْ—أنتظر نومهْ،
حتى أجلس و الليلْ ... معاً نسترجع العمرَ.

 

فى الليل ...

ما أعظمَ الليلْ!
صمت الشوارع يرهبنى؛
أسيرْ ... و حزنى معى يسيرْ،
ظلان يسرعان تحت المصابيحْ،
و نجومٌ تشاهدنا مشفقةْ.
ألتفت خائفاً أن يكون
قدرى و أعداء النهار جاءت ... فى الليل تطاردنى.
ما لنفسى مفر، من همٍ جسيمْ
سيهوى على صدرى! الآن أم متى؟
ما لروحى خلاص
و كل الماضى قد أتى
هنا برفاقه و أسلحة ... هم أقوى منى—
و حاضرى صامت عقيم، ينظر و لا يساعدنى.
دقات عمرى تروعنى
مع وقع خطوى تدفعنى
لمجهولٍ ... باتَ يفزعنى.
كل أفكارى ... الآن تغمرنى
كلما صرخت لاهثاً، للعمق تدفعنى ... كى أغرق و أموت.
و لا يشاهدنى سوى ليل، لا تنام عينه،
كالموت يتنظر ... من يحصده.
أهيم وحدى تائهاً، تجعلنى الأقدار بلا وطن،
ترذلنى الشوارع و تسخر ... من أرجلى الخائفة.
نفسى حزينة و كل المخلوقات تراها:
لما النسيم صارخاً، و قد كان بالأمس هامساً
فى أذنى أرق كلمات، غزلاً و صلوات، فينتشى كطفلٍ قلبى لها!
ترانى النجوم، من علو ... فتشيح الوجه عنى،
كأنى بنورها غيرُ جدير.
و الأرض تركلنى بعيدا، كأنى لها عدو.
كل الطبيعة ترفضنى
بعدما كنا أصدقاء، نأتى كل ليل ... لأحكى و تسمعنى.
 

5- الخيال

فنان

كيف للشكوى أن تخرجَ
فى رسمٍ أو ورقْ، فى شعرٍ أو نغمْ!
كيف للجماد أن يستمعَ، و الناسُ هم صاروا جمادا؟
ما بعد النار المتواصلة ... داخلى ... هدوءٌ أو رمادْ:
عمرها الطويل بعمر دمع إبليسْ.
ويلى من جحيم صنعته يدِى،
كتبتُه و رسمتُه و عشتُ فيه،
فصار فى قلبى حزنٌ دفينْ ... للأبد أسكن فيه!
أما لهذا الزمان السقيم نهاية؟
قديمٌ كبيتٍ هوى بساكنيه؛
تجول فى ركامه،
بين رؤوسٍ و أشلاء،
فئران ... ترفل فى نعيم.
يالقدرى من قدر هؤلاء
المتكاثرين السعداء!
ويلى أنا الحكيم،
لم يجبنى سوى رسم، لم تسمعنى سوى كلمات ...

 

زجاجة

أحترق فى زجاجة خمرٍ
كجنىٍّ أسير؛ هناك سقط، و عاش ألف عام.
ألعن مذاقات الدهر كلها
و أنوء بأفكارٍكثيرة و سنينٍ أحملها—لا أعرف الغاية.

كنت أسير مع الزاهدين
نناشد الغيب فى سعادة،
ننادى أحلام الطفولة، كى تعود
فى يسر ... فلم تعد؛
فسرت فى دروب العابثين
نعيش اللحظات،
فصارت معارك و قتال
مات فيها الضعفاء.

ترفض صداقتى الحياة
فأصاحب الموتى و الذكريات
و أعيد العشق إلى عصوره الأولى:
لنقف جميعنا هناك—عند البداية!
اشرب و لا تظن ... هناك سباق أو طريق!
اهرب قبلما تُجنّ،
ما أصدق الخمر صديق ... يا لندرة الصادقين!
كل جهودنا بخار، سُجِن فى زجاجة،
سيمضى مثل العمر ... و لن نعرف الغاية.

 

هذيان

يا لتفاهتَكْ! لستَ شيئاً، لست إلا...
أنت الوقتُ حين تأخرْ، الغبىُّ وقتَ فكّرْ؛ بما أشبهُكْ، لست إلا...
أُفيقُ كل يومٍ، سامعا صراخَ شهوتِكْ، أرى تعاستَكْ.
تلهو بالكلمةْ و تحبُ الظلمةْ—
من يريدُ معاشرتَكْ، من يتدنسُ بلمسِكْ؟—ليس إلا...

العلةُ الأولى فى كل ملةْ: المللُ علةُ أىِ فكرةْ!
و الحقيقةُ بعيدةْ، كفكرةْ بلا كلامْ.
مللُ كلِ الأماكنِ أنكَ تراها، بلا تخيلْ؛
تبرعُ فى وصفها، بلا تمهلْ، و لا تفكِّرْ.

العبثْ: بصيصٌ من الأملْ؛ إصيصٌ بلا زهرْ؛
قديسٌ يعيشٌ فى الصخرْ، و ليس مع البشرْ.
البلهُ و العتهْ، و كلُ صنوفِ الخبلْ، كلُها
متعٌ حقيقيةْ، لمن أرادها؛ فمن بدعها بشرْ
كانوا بلا عقولْ. أقولْ: الكسلُ متعةْ أكيدةْ،
إنْ أردتَ متعةْ جديدةْ.

أُرشدُ المستجِدينَ، فى ... مدارج سجن الحقيقةْ؛
أحبُ الكذبَ، و لن أفيقَ.
أيا صديقى الآنْ—ليس سواىَ صديقا—
كن معى، حينما
نسحقُ الزهورَ؛ نقتلُ ما ليس جميلا، أو جميلا.

أراكَ مشدوهاً ببلَهْ! حسناً—
أحببتُ نظرةَ الولهْ، فى عينيكْ؛
و قضيت حاجتى ... فى أذنيكْ.

 

ارتفاع

ساكناً!
وسْط ظلالٍ متداخلةْ،
بين أنفاسى المتغيرةْ،
أقبعُ
وحيداً!
انتظرتُ سنينى كلَها
طيفَ غائبٍ لأقابلَهْ.
سيخرجُنى من الأسوارِ،
يرتفعُ بى فوق الأجواءِ،
مهرولا—فلما البقاءُ
و السماءُ تنادى ... تشدُ
فؤادى!

لكن انتظارى ... طالْ!
فى ركنٍ من الأركانْ،
اندفعت الظلالْ
تتهاوى علىَّ
بلا توقفْ—كالقدرْ—ترانى أصرخ؟

بعيداً أحدُهمْ تساءلْ:
"هل فى الكونِ مثلى من يئنْ؟ —
عبثٌ، منى التفاؤلْ!
فكلُ البشرْ ينسَوا، و ماسواهم يأْسُوا."
و آخرٌ أَبَى أن يبوحْ—رغمَ كلِ الجروحْ—بأىِ سرٍ عن ألمهْ:
مات المسكينُ مع حِلمهْ.

آه ... الأمل فى النجاة تضاءلْ! صوتى من الصراخ تكسر—
لكنى بعدْ أتنفسْ!
أدققُ بين الظلالْ ... لا أرى شىء—و لا أتأثر.

أغمضت عينِى لأنسى،
فرأيت نفسى—وسط دموعى و يأسى—من الجدران أنفذْ، كطيفٍ، بسرعةْ لا تفسرْ.
إلى أينْ؟ لم أفكرْ.
إلى النورِ أفكرْ.
 

انقلاب

حريق فى السماء!
ملائكة تسقط صرعى،
دموع على خد الإله،
انقلابٌ فى مملكته،
حيوانات الجحيم تخرج: اهتز عرش الإله!
لم يغضب بعد—الآن سيغضب:
صفع إبليس على وجهه
فغاص قى أعماق الأرض
و الكل ينظر فى اندهاش.

هدأت العاصفة، و انتهى الزلزال... لم يمت أحد.

 

الكلمة

ياللغةْ التائهةْ!
ترتفعُ و تهبطْ، بلا فائدةْ،
تنتفخُ بالهواءْ، نحو السماءْ، صاعدةْ،
ترددُ النغماتْ، و الإيقاعاتْ،
منتظمةْ، رتيبةْ، صاخبةْ. و الإيماءاتْ:
الإيماءاتُ أملى الوحيدْ، لغةْ غيرُ اللغةْ، معانٍ بدونِ الكلماتْ.
أرى المعانى، و تعمينى الكلماتْ!

أغوصُ فى الغرابةِ و اللغزِ و الإبهامْ،
تصيرُ حياتى معتمة، دموعى بضحكى مفعمة؛
مبادئى كصداقاتى، مخلخلة، محرمة!
وحدتى فى دمائى ممهدة.

فيا نور الحقيقة: أراكَ خلف الزهورْ، و الظلالْ، و الصخورْ!
لِما تذبلْ و تتلاشى
ككل الصورِ—أراها ... و أنساها!
فيبقى اعتقادى أننى
عشتُ فى الكونِ لحظاتْ
مت بعدها—
لا فائدةْ من وجودها.

 

الرحلة

صداعٌ فى النصف الشرقى من رأسى؛
احتمال هبوب عاصفة من الألفاظ البذيئة!
هل تسمعنى يا ضميرى؟
دعك منى! سأترككْ
وأذهب فى رحلةٍ مع النورْ.
و أنتن يا بنات خيالى تعالَينْ! فمعكن ستزدهر شهوتى.
أين أهلى و الطفولة؟
تركونى، و جلست فى المستقبل وحيداً:
ترفعنى أمواج القداسة، و أغوص فى وحل الشهوات.
جسدى محتقنْ و حبى لا يرتوى
و أطيافٌ من هوىً غريبٍ تأخذنى للسماء—
هل من أملٍ فى الشفاء؟
ياللعجب! من رفعنى هنا؟—جسدُ إحدى النساء
تفترسنى و أفترسها
و قطرات عرقنا تسقط
على صحراء الأرض الناسكة!
شيوخٌ و رهبانٌ و فقراء،
أناسٌ من كل دين
جمعهم الزمان، ليسخر منهم:
مساكين، يصلّونْ و لا يصلونْ؛
كتماثيلْ ... صامتة كئيبة، كائناتٍ من الأساطير!
أرى غدى يقترب، و أسمع من بعيد
صرير أبواب، خرير مياه، صفيرٌ و موسيقى جنائزية:
ماذا بعد موت البشر؟
ستحملنى الملائكة، و أنظر لها فى ابتسام—فتخبرنى:
"ستقابل خالقك ... و يقابلك!"
أنتظر عابثاً ... سماع حكم السماء:
أخافه ... أعرفه ... لا أعرفه!
سأنسى الموت الآنْ، و أرى الحب—إن كان يملؤنى
و لا يترك بى جزءاً للألم!
أشتهى حريقاً يفنينى ... و يبقى مكانى طفلاً بريئا،
يصلى و يبكى، و يرقص مع الملائكة،
و فى بحيرة الحقيقة، يغرق ... دون أن يموتَ.

 

زيوس و هيرا

دموعٌ تنهمرُ بغزارةْ
على صدرِ المرأةِ الأبديةِ العملاقةْ!
تطأُ الكون برِجلها
وعبث البشر جراحٌ، نافذةٌ فى أعماقها؛
تنادى رجُلها و تصرخْ،
كل المخلوقات صامتةْ.
لا شريكَ فى وحدتها المفزعةْ.
الوجود كله جسدها، و نحن نرتقى إلى صدرها:
جمالها، لهيب نظراتها، سخونة أطرافها
تُشع فى الكون دفأً، تستره سواداً وقوراً و حزناً عظيماً.
خبرينى يا سيدتى: ما يؤلمكْ؟
تزلزلت الأرض. من يتكلمْ؟
الرجل الغائب حضرْ،
العقل العظيم سيعملْ!
انطرحت المرأة و طوت
كل البشر المذعورين تحتها، و علا الرجل فوقها،
كل جسده أحمرْ، ونظرته نحو الأفقْ:
يرتشف من بريق الأزل و الأبد حكمتَه،
يمسك الزمان فى قبضتِه،
و المعرفةُ تتساقط من جبهتِه،
لمن يحب أن يعرف.
تسارع الرجال إلى الحكمة
يصعدون على جسدِهِ
لكنهم لم يتعدَوا ... أسفل صدره؛
قبعوا هناك ساكنينْ
و أحلامهم أن يلامسوا الشفاةْ
و يبتلعوا كل قوتِهْ
فيصير هم الإلهْ.
و لكنه باطشٌ، ذو مزاجْ؛
إن أراد ابتلع هو أقوى الشبابْ.
من يرضيه؟ من يلّبى دعوتَهْ؟ من ينفذ وصيته؟
صرخ الجميع تحتهُ:
سيدى! هذه ليلتى.
... و السيد يبتسم فى ثقةْ.
تلتمع الشفاةُ القرمزيةْ، بوميض رغبةٍ حارقةْ؛
احمرار عينيه لحرمانه من لذتهْ.
لا أحدْ يفهمُهْ! لم يفهمْهُ أحدْ.

 

 

Home
 

2013 © All Rights Reserved